الحرب الخاصة داخل روح “القرصانة الطيبة” ماري كولفين في فيلم سينمائي

يبدأ فيلم A Private War أو “حرب خاصة”-إنتاج 2018- من مشهد مقتل الصحفية الأمريكية “ماري كولفين” في سوريا عام 2012، بلقطة علوية تصف الدمار الذي لحق بحي “بابا عمرو” في حمص بعد أن ضربت قوات الأسد الحي بدعوى إنها تستهدف الإرهابيين، وأراد الفيلم أن يختصر الفيلم بدايات عمل “ماري كولفين” كمراسلة حربية لصحيفة “صنداي تايمز” بمعلومة مكتوبة على الشاشة تقول إنه “في عام 1986 بدأت ماري كولفين كمراسلة حربية تكتب حول خطوط الجبهة لكل نزاع كبير من العراق إلى أفغانستان إلى سوريا”

بوستر فيلم “حرب خاصة”

تستمر اللقطة التي تصور الدمار في الاتساع، وعلى شريط الصوت نسمع صوت يسأل: “بعد خمسين سنة من الآن، ولد ما سيسحب هذا القرص من الصندوق، وربما يصدر حكم حول أن يصبح صحفي، ماذا تريدي من ذلك الولد أن يعرف عن ماري كولفين؟” وتجيب ماري بصوتها المميز: “سؤال صعب مثل كتابة نعيك. أنظر إلى الوراء وأقول، أتعلم لقد اهتممت كفاية للذهاب إلى هذه الأماكن والكتابة بطريقة ما، شيء يجعل شخص آخر يهتم بالقدر نفسه عنه. لن تصل حيث تذهب إن أقررت بالخوف، أعتقد أن الخوف يأتي لاحقا عندما ينتهي كل شيء”!

كولفين في سريلانكا

لا يمكن اعتبار فيلم “حرب خاصة” هو سيرة ذاتية للمراسلة الحربية الأمريكية “ماري كولفين” بقدر ما هو محاولة لإيجاد إجابة على اسئلة تبدو دائما قرين عملها الدائم في الخطوط الأمامية للحروب: لماذا تفعل “ماري كولفين” ذلك؟ ما الذي يجذبها إلى هناك؟ عن ماذا كانت تبحث في الصراعات الدموية التي غطتها لصحيفة “صنداي تايمز”، خاصة إن زملائها في الصحيفة نفسها كانوا يرون إن “أي شخص عاقل لن يقوم بما تفعله هي”!

ماري مع شون محرر صحيفة صنداي تايمز

من ناحية أخرى من الصعب أن نقول إننا أصبحنا واعين تماما لإجابة تلك الأسئلة بعد نهاية الفيلم، حتى مع الإجابة التي بدأ بها الفيلم بأنها تتواجد هناك في الخطوط الأمامية في الصراعات الدموية لكي تجعل آشخاص آخرين يهتمون بالقدر نفسه الذي تهتم به هي، هذه ليست الإجابة الوحيدة، هناك العديد منها يمكن تخمينها عن امرأة فقدت عينيها اليسرى أثناء التغطية الصحفية، وبعد أن شفيت قررت أن تلقي بنفسها في صراع آخر، وكأنها كانت تعلم إن حتفها سيكون هناك في ساحة من ساحات الحرب التي تعمها الفوضى والدمار وأشلاء المدنيين!

نعود إلى الوراء، ويبدأ الفيلم في عد تنازلي للسنوات التي سبقت حمص: لندن، إنجلترا قبل 11 سنة من حمص، نرى “ماري” وهي تمارس الحب مع زوجها ديفيد، ثم تخبره برغبتها في أن تنجب طفلا، لكنه لا يرى إنها فكرة جيدة “حاولنا.. لست في 35 أكثر”، في الفيلم أكثر من مشهد لـ “ماري” وهي تمارس الحب مع رجال عرفتهم للتو، فبعد إنهيار زواجها بديفيد، أصبحت تبحث عن الحب وكأنه بحثا عن الأمان ولو كان مؤقتا، كانت تلقي بنفسها في علاقة مع رجل عرفته للتو، لم نراها تنتظر تلك المقدمات الطويلة لأي علاقة قبل أن يجد الرجل والمراة أنفسهما يمارسان الحب، فهي لم يكن لديها وقت لتلك المقدمات، ولا تعقيدات العلاقات العاطفية، فحياتها الخاصة كانت أشبه بفواصل قصيرة بين حرب وأخرى، لم تكن حياة مستقرة لامرأة، حتى إننا لم نراها تعد الطعام مثلا، أو تضع الماكياج، أو تقوم بأي سلوك لامراة في منزلها، فالحياة العادية المستقرة لم تكن لتنال إعجاب “ماري”، بل الحياة على حافة الخطر وأحيانا في قلبه هي ما تناسب امرأة مثلها.

أقنعت “ماري” رئيسها بأن تذهب إلى حرب لا يغطيها أحد ولا يهتم بها أحد “حيث هناك آلاف من الأطفال الجائعين”، تذهب إلى “سريلانكا” حيث متمردي التاميل في تيمور الشرقية، هناك حيث فقدت عينها اليسرى ومن بعدها ترتدي رقعة سوداء أصبحت معروفة بها فيما بعد، وأضفت عليها هالة أسطورية، ففي حفل لتكريمها وصفها المحرر شون راين بأنها “أسطورتنا الحية الخاصة”.

كولفين في الفلوجة- العراق

بسرعة نذهب معها إلى حدود العراق 2003، 9 سنوات قبل حمص، حيث ذهبت إلى الفلوجة لكي تغطي حدث فتح مقبرة جماعية تضم 600 شخص قتلوا بواسطة صدام حسين عام 1991، ودفنوا في خنادق. نراها وهي تخوض رحلة خطيرة لكي تذهب إلى هناك مع مصورها “بول” ومترجمها، وهي بذلك تذهب في عكس الإتجاه الذي ذهب إليه الصحفيين الذين يعملون تحت حماية قوات الإحتلال الأمريكي، وفي هذا إشارة إلى كراهيتها لمن يضعون القواعد ورغبتها الدائمة في الاستقلالية وأن تختار المكان الذي يجب أن تتواجد فيه، فهناك حيث بكاء النساء على رفات الجثث التي تُستخرج من الأرض، كانت هي الصحفية الوحيدة مع مصورها، كانت تبكي أيضا بسبب المشاعر التي غمرتها للمشهد المأساوي الذي وجدت نفسها فيه، وفيما بعد سنرى البكاء يلازمها أثناء عملها في أفغانستان، ليبيا وأخيرا سوريا التي شهدت توقف بكائها وقلمها أيضا.

عندما عادت إلى شقتها في لندن، كانت مصابة بإضطراب ما بعد الصدمة، كانت لا تعرف أو تعرف ولا تريد أن تتلقى علاجا، توقفت عن التواصل مع الصحيفة، والرد على الهاتف، عاشت في عزلة، في شقتها التي تعمها الفوضى وكانت أشبه بساحة حرب مصغرة، مع إدمانها للكحول، وتحت ضغط من صديقتها المقربة ذهبت إلى مصحة لتتلقى العلاج، وهناك مشهد جميل شديد الحساسية، كان بينها وبين مصورها “بول” الذي رافقها في العراق وسيرافقها أينما ذهبت بعد ذلك، عبرت له خلالها عن مشاعرها، عن حقيقة مخاوفها، عن أحلامها المهدرة، عن سوء التفاهم بينها وبين الحياة، قائلة: “عُذبت عندما مات والدي؛ لأنه لم يفهم حقيقة إنه ربما لدي آراء خاصة بي. أحب أمي لكني أكافح لأنه لا يمكن أن أكون ربة البيت المدينية في الحياة الآمنة. أحصل على حمية بعنف لأنني لا أريد أن أسمن، لكني رأيت الكثير من الجياع، لذا أحب الأكل. أريد أن أكون أما مثل أختي لكني حصلت على عمليتي أجهاض، ويجب أن أقبل حقيقية أنني قد لا أكون أما. أخاف من التقدم بالسن، لكني أيضا أخاف من الموت صغيرة.. أكره التواجد في منطقة حرب، لكني أشعر بالاضطرار أيضا ملزمة نفسي برؤيتها”. ربما لذلك المشهد بالتحديد قالت عنها الممثلة البريطانية روزاموند بايك، التي جسدت شخصيتها، بأن “ماري كولفين امرأة التناقضات الحادة”!

ماري مع بول مصورها الذي تعرفت عليه في العراق

بعد فترة علاج لا نعرف كم استمرت، انتقلنا معها إلى “أفغانستان” عام 2009، 3 سنوات قبل حمص، نسمعها تقول على شريط الصوت “في تغطية الحرب هل يمكن أن نجعل هناك فرق حقا؟ الصعوبة الحقيقية الحصول على إيمان كافي بالبشرية للاعتقاد إن ما يكفي من الناس سيهتمون عندما تصل قصتك أخيرا إليهم”. أصبحنا مدركين الآن أن أكثر ما يهمها في الحروب أن تكون في جانب المدنيين، تشعر إن ولائها لهم، ومن واجبها أن تنقل معاناتهم، وتتمنى في ذلك أن تُحدث فرقا بسيطا بوجودها بينهم ونقلها قصصهم المأساوية.

اعتقد إن ذلك لم يكن فقط انحيازا شخصيا منها لقضية المدنيين في الصراعات المسلحة، ولكن منذ ذهابها إلى تيمور الشرقية، وبسبب قرارها بالبقاء مع المحاصرين في مجمع الأمم المتحدة، مما دفع الأمم المتحدة إلى التخلي عن قرارها بالرحيل، وقررت البقاء، شعرت أن وجودها قد أحدث فرقا، وربما هذه الواقعة وما حدث فيها كانت ملازمة لها بشكل جعلها ولو بغير وعي منها تشعر أو تتمنى إن في كل مكان تتواجد فيه سيُحدث وجودها تغيير، لكن بالطبع ليس شرطا، خاصة مع النظر إلى أن القصص التي كانت ترسلها إلى صحيفتها، كانت إدارة تحرير الصحيفة تتناقش حولها، إذا ما كان لها مساحة في الصفحة الأولى أم لا، بالنظر إلى قضايا آخرى قد تهم المواطن الأوروبي أكثر من قضايا الصراعات في الشرق الأوسط التي اعتادت تغطيتها.

واحد من تكريمات ماري كولفين

في “حرب خاصة” عقب كل رحلة تخوضها ماري كولفين إلى ساحة حرب كان هناك حفل احتفاء بها من قبل صحيفتها أو الصحفيين في لندن عموما، كان هناك تكريم مستمر لها على جهودها، وعلى الرغم من إن الاحتفاء بجهود أي صحفي وتكريمه وحصوله على جوائز تميز هو أمر إيجابي بالطبع، لا نستطيع أن نرى هذا بشكل إيجابي تماما بالنسبة لماري كولفين، فربما جعلها هذا التكريم المستمر وكأنها في سباق لكي تلقي بنفسها في كل مرة في ساحة حرب جديدة، لا نقول إن هدفها من تغطية الحروب هو الحصول على التكريم، لكن هذا الارتباط الشرطي بين رحلاتها وبين حفلات التكريم، جعلها لا تفكر في سلامتها بقدر حرصها على مزيد من التميز في هذا المجال الصعب والخطير، ولم يجعلها تتمهل قبل أن تفكر في رحلة جديدة إلى حرب دموية أخرى، خاصة إن إدارة صحيفتها منذ تغطيتها لأحداث الثورة الليبية وهي ترسل إلى نفس المكان صحفية أخرى، فشعرت أنه بمرور الوقت لم تعد الصحيفة تعتمد عليها بشكل كامل كما كان في السابق، ولذلك كانت تبذل المزيد من الجهد، وتتواجد في أماكن شديدة الخطورة ووقودها في ذلك رغبتها في التواجد وغضبها من إدارة تحرير صحيفتها!

من ناحية أخرى، لفتت روزاموند بايك-أدت دور كولفين- في حوارها مع قناة بي بي سي عربية، بأن ماري “لم تكن محصنة ضد الحقيقة”، وكانت تشير إلى أن رقعة العين السوداء التي أصبحت ترتديها بعد إصابتها في سريلانكا “أعطتها نوعا من التباهي، كما أعطتها نوعا من الجودة غير الحقيقية.. كانت بمثابة إختزال للخطر”!

في ثلث الفيلم الأخير وصلنا إلى المحطة الأخيرة، حمص سوريا عام 2012، حيث نسمعها تقول “ربما كنت سأحب الحياة الطبيعية أكثر، لا أعرف كيف، أو ربما هنا حيث أشعر بالراحة الأكبر”، هي تكشف عن جانب آخر من شخصيتها، التي تشعر بالراحة أكثر في ساحات الحرب وسط قصف المدافع وأزيز الطائرات المحلقة.

في حمص السورية

كانت كولفين واعية أن ما ترسله إلى صحيفتها عن الصراع في حمص يتناقض مع ما تقول الآلة الدعائية للرئيس السوري، لكنها لم تستشعر الخطر الناتج عن ذلك، ورفضت أن تغادر حي بابا عمرو الذي كان يُقصف، وقالت لمصورها أن هناك 28 ألف مدني محتجزين في هذه المدينة ولا يمكن أن تتركهم وتذهب، ولم تستمع إلى نصيحة محرر صحيفتها بأن عليها أن تغادر فورا، وقررت أن تتحدث على الهواء إلى محطة سي إن إن عن الوضع في حمص، قائلة إنها مدينة يسكنها الجياع العزل، العاجزين عن إطعام أولادهم أي شيء ماعدا السكر والماء لأسابيع كاملة، وأضافت “النظام السوري يدعي إنه لا يضرب المدنيين، بل يطارد العصابات الإرهابية، ليس هناك أهداف عسكرية هنا، إنه كذب مطلق.. هذا أسوأ نزاع رأيته..”.

ماري وبول

بعد البث استطاعت قوات الأسد تحديد مكانها، وقصفت المبني الذي كانت تقيم فيه، وقتلت مع الصحفي ريمي أوشليك في 22 فبراير 2012، أما بول كونروي فقد أصيب إصابة بالغة، لكنه نجا واستمر بالعمل في التصوير الصحفي.

لم يهتم فيلم “حرب خاصة” بأن يسرد لنا قصة حياة واحدة من أشهر المراسلين الحربيين في العالم “ماري كولفين”، بقدر ما أراد أن يُلقي الضوء على “حربها الخاصة” الدائرة داخل روحها، والصراعات التي أنهكتها منذ بداية عملها في تغطية الحروب، التزامها بتسجيل معاناة المدنيين في الصراعات المسلحة، من ناحية، وعدم قدرتها على التأقلم مع حياة تشبه حياة أي امرأة عادية مستقرة من ناحية آخرى، فأصبحت ساحة الحرب والخطوط الأمامية للصراع المسلح هو بيتها الذي تشعر فيه بالراحة أما حياة المدينة فكانت فاصل قد يطول ولكنها لا تستمر فيه، ولا تفكر في الانتقال إليه معتزلة الحياة الخشنة التي اعتادت أن تتواجد فيها.

وجاء الإعجاب بعملها والإشادة بها، ومن قبله الفرق الذي شعرت إنها تحدثه في حياة الناس في هذه الظروف الصعبة دافعا قويا للاستمرار، متخلية عن الحذر وملقية لنفسها في قلب النار وأمام فوهة المدفع متناسبة إنه بموتها لن يمكنها أن تؤثر في حياة الناس، وإنهم سيفقدونها وكان الأولى أن تحافظ على حياتها، لكن نهايتها كانت وسط الركام الذي اعتادت أن تراه في الصراعات المسلحة، وكانت من اوائل الصحفيين الذين قتلوا في سوريا.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: