من البداية يضعنا فيلم can you ever forgive me أو “هل يمكن أن تسامحني” مع مأزق البطلة “لي إسرائيل” كاتبة السير الذاتية التي كانت يوما ما ناجحة، لكنها لم تعد كذلك، تُطرد من عملها مع أول مشهد بسبب إصرارها على شرب الكحول في مكان العمل، بالإضافة إلى شتائمها لكل من يعارضها.

نكاد في هذا الفيلم لا نعرف ميليسا مكارثي التي أدت دور “لي إسرائيل”، فالملابس الرثة والماكياج وتسريحة الشعر قد أضفوا عليها مظهر قاسي لامرأة في بداية العقد الخامس من عمرها، تعيش حياة صعبة متقشفة، خالية من البشر تقريبا، فهي “تحب القطط أكثر من الناس” كما قالت هي عن نفسها، فأفضل علاقة لها كانت مع قطتها، عندما تمرض نكتشف أن مأزق “لي” ليس إنها تعيش على الكفاف وبلا عمل تقريبا، بل مرض قطتها، الذي يجعلها تفكر في وسائل “مبتكرة” للحصول على المال، بعد أن فشلت في أن تجبر ناشرتها على أن تدفع لها مبلغ مقدم للسيرة الذاتية التي تكتبها عن الممثلة الكوميدية الأمريكية “فاني برايس”.

نشعر من البداية إن هناك شيئا غريبا بين “لي” وبين مجتمع الكتّاب، فهي عندما ذهبت إلى حفل دعتها إليه ناشرتها، لم تتحدث إلى أحد، وبالكاد تحدثت إليها صاحبة الحفل، ندرك إنها تعرفهم لكن ليس لديها صداقات مع أي منهن، وفي داخلها كانت دوما تسخر منهم، لا نعرف هل هذه السخرية بدافع الغيرة، أم إنها ترى نفسها أفضل منهم، لكنها ليست غنية ومشهورة مثلهم.

في مشهد تالي، عندما تذهب “لي” إلى الناشرة لكي تعترض على منح كاتب ثلاثة ملايين دولار مقابل كتاب، نعرف سر الأزمة بينها وبين وكيلها الأدبي “الناشرة”، سلسلة من التعقيدات جعلتها تطردها بسهولة في النهاية.

قالت لها الناشرة إن هناك ثلاثة أسباب تجعلها لا تدفع لها أي مبلغ مقابل الكتاب الذي تعمل عليه، أولا: نعم إنك كتبت بعض السير الذاتية الناجحة ثم اختفيت وراء مشاكلك، وبسبب ذلك لا أحد يعرفك. ثانيا: توم كلانس-الذي حصل على 3 ملايين دولار- يلتزم بكل برنامج إذاعي، يذهب إلى كل جلسة توقيع كتاب، يلعب اللعبة، وفي هذه الأثناء أنت دمرتِ كل جسر بنيته لك. أما ثالثا، فهي إنه لا أحد يرغب في كتاب حول “فاني برايس”!

في هذا المشهد الذي جسد سر أزمة “لي إسرائيل” مع وكيلها الأدبي، وسر خفوت نجمها بعد أن كانت مشهورة، وكان في إمكانها أن تحافظ على تلك الشهرة لولا رغبتها في الإنعزال، وبالطبع “عجرفتها” وتمردها على كل القواعد، جعلها وهي في عمر الواحد والخمسين مفلسة، بلا عمل، يمكن أن تُطرد من شقتها بعد أن توقفت عن دفع الإيجار لأشهر، ولديها قطة مريضة ولا تملك المال لعلاجها، بالإضافة إلى أن الحلول التي قدمتها لها الناشرة لكي تعيد النظر في التعامل معها، من الواضح إن “لي” لا يمكنها أن تقوم بأي منها، قالت لها ببساطة: إما أن تصبحي شخص لطيف، وترتدي ثياب لائقة، وتتوقفي عن الشرب، وتقولي من فضلك وشكرا، أو يمكنك أن ادفع لك مقابل أعمالك”!

لم يكن من السهل على “لي” أن تتغير لتلائم طبيعة مهنتها، وجدت إنه من المستحيل أن تصبح مرنة واجتماعية، وأن تتخلى عن طباعها في معاداة الآخرين، في المقابل كان يبدو إنه سهلا عليها أن تقوم بحيلة لتزوير الرسائل الأدبية لكتاب بارزين، مستغلة موهبتها في الكتابة وفي تقليد أسلوبهم ببراعة، بدأت بتزويد ملاحظة بسيطة إلى خطاب قديم بالفعل، وانتقلت إلى تزوير خطابات كاملة وصلت إلى 400 خطاب!

هنا يبرز دور صداقتها برجل مثلي عجوز اسمه “جاك هوك”، لا نعرف على وجه الدقة ما سر علاقتها بهذا الرجل ولماذا سمحت له بالاقتراب منها ليصبحا صديقين، مع إنها لا تحب مصادقة الناس عموما، وتحب أن تقضي وقتها وحدها، ربما لإنه مرح، وربما لإنه اقتحم عالمها في وقت إصابتها بخيبة أمل كبيرة وشعور بالضياع، وربما لإنه يشبهها من ناحية الميول الجنسية، وربما لإنها شعرت بالحاجة لوجوده بجانبها في “عملها الجديد” في تزوير الرسائل الأدبية، وربما كل هذا الأسباب مجتمعة ما صنع علاقتها بـ “جاك هوك”!

لحظة التغيير في حياة “لي إسرائيل” لم تأتي إلا فيما بعد اكتشاف حيلتها ووصول المباحث الفيدرالية إليها، واتهامها بالتزوير، وقبل أن تمثل أمام المحكمة، كان هناك مشهد لافت للدلالة على علاقتها بشريكتها السابقة “إلين” التي كانت تحاول طوال الفيلم أن تتحدث إليها، والثانية كانت ترفض مجرد الرد عليها، قالت لها “إلين” إنه كان هناك دوما حاجز بينهما فشلت في أن تخترقه، إنها حاولت كثيرا لكن دون جدوى، وتركتها ومضت!

أعتقد واحد من أفضل مشاهد الفيلم هو مشهد محاكمة “لي”، لأول مرة نراها تعبر عن حقيقة مشاعرها، دون أن تتخلى عن شخصيتها الصدامية، وعلى عكس نصيحة محاميها قالت: لا أستطيع أن أندم على أي من أفعالي. لست نادمة. بطرق عديدة كان هذا أفضل وقت في حياتي، إنها المرة الوحيدة مؤخرا بما يمكنني تذكره أشعر أني فخورة بعملي.. أعتقد أنني أدركت أنني لست كاتبة حقيقية..”. لم يتم سجن “لي” بل حُكم عليها بخمس سنوات تحت المراقبة، بالإضافة إلى الاقامة الجبرية لمدة 6 أشهر في منزلها فقط يمكنها مغادرة المنزل من وإلى عملها، مع ضرورة حضورها اجتماعات مدمني المخدرات، ودفع تعويض للضحايا في حدود ما تسمح به الإمكانيات، مع الانخراط في خدمة المجتمع، لكن “لي” لم ترحب بأي نشاط يجعلها تحتك بالبشر بل ارتضت عمل في مأوى للقطط.

وفاة قطتها، والأزمة التي مرت بها بسبب تزوير الرسائل الأدبية، والحكم الذي صدر بحقها، ومواجهتها لرأي الآخرين فيها، خاصة شريكة حياتها السابقة، دفعها للتغيير، وجدت عملا جديدا، وغيرت من طريقة ارتدائها الملابس، تخلت أخيرا عن المعاطف ذات الألوان الكئيبة، كانت حريصة على أن تقابل صديقها “جاك هوك” ولو لمرة أخيرة، وشرعت في الكتابة -مستخدمة الكمبيوتر بدلا من الآلة الكاتبة- عن تجربتها في تزوير الرسائل الأدبية، متخلية عن وجهة نظرها السابقة في أن حياتها لا يوجد بها ما يثير الاهتمام، وكتبت في النهاية السيرة الذاتية بعنوان can you ever forgive me وهي واحدة من الجمل التي وردت في إحدى رسائلها المزورة، وربما يشير هذا العنوان أيضا إلى رغبتها في أن يغفر لها جامعي المقتنيات الذين خدعتهم وباعت لهم رسائلها المزورة.

فيلم can you ever forgive me أو “هل يمكن أن تسامحني” ممتع وملىء باللحظات الفارقة في حياة صاحبة السيرة الذاتية الأصلية “لي إسرائيل”، وأهمها تلك اللحظات التي وجدت نفسها في مواجهة حقيقتها كامرأة متمردة على محيطها، ومنعزلة تعيش على شبح من الشهرة كان في الماضي، وتجربتها في تزوير الرسائل الأدبية كانت جسرا للتغيير، ولولا تلك التجربة ربما ظلت “لي” كما هي، وحيدة ومفلسة أو ميتة بفعل إدمان الكحول. كما إنه فيلم يحمل ظهورا مميزا للغاية لـ ميليسا مكارثي، أعتقد ان اختيارها وادائها لدور “لي إسرائيل” واحد من أهم مفاجأت هذا الفيلم، ومثلما كانت “لي” متمردة بطريقتها، كانت “ميليسا” متمردة أيضا على أعمالها السابقة كـ كوميديانة في أعمال بسيطة، إلى ممثلة كبيرة بأداء لافت. لن تكون مفاجأة إذا حصلت على جائزة الأوسكار هذا العام عن دورها في هذا الفيلم.