يطرح فيلم The kids are all right أو “الأطفال بخير”-إنتاج 2010- فكرة مشابهة لما طرحه فيما بعد الفيلم المصري “بشتري راجل”، لكن بمعالجة مختلفة تماما، تتناسب مع المجتمع الغربي، بالإضافة إلى إنها تعبر عن أزمة مختلفة عن التي عاشها بطلي الفيلم المصري.

فيلم “بشتري راجل” ببساطة يروي قصة امرأة ناجحة في عملها، وصلت لمنصب مدير مالي في شركة كبيرة، جميلة وغنية وذكية، لكنها قاربت على الأربعين، وستفقد قدرتها على الإنجاب قريبا، لذا قررت أن تبحث عن رجل يمنحها حيواناته المنوية في إطار زواج صوري، مقابل مبلغ مالي محترم، وعقدت مقابلات كثيرة مع عدد من الرجال، إلى أن وصلت إلى “بهجت” الطبيب البيطري، الذي يمر بأزمة مالية طاحنة جعلته يقبل العرض، لكن الفيلم انتهى إلى أن الزواج الذي بدأ صوريا، انتهى بزواج فعلي، والمرأة التي لم تكن ترغب في اتصال جنسي مع رجل، حتى لو كان في إطار زواج، لم تحمل من عمليات التلقيح الصناعي، وحملت بالطريقة الطبيعية، نتيجة لقاء جنسي بين رجل وامرأة.
انتهى “بشتري راجل” بختام سعيد، حيث أحبت المرأة الرجل رغم كراهيتها السابقة للرجال، وتقبل الرجل الزواج رغم رفضه المستمر لفكرة الزواج، وأنجبا البنين والبنات، وخرج رواد السينما مبتهجين، بعد أن اطمأنوا على المرأة والرجل!

لكن في الفيلم الأمريكي “الأطفال بخير” يروي قصة امرأتين مثليتين، متزوجتين من فترة طويلة، حياتهما مستقرة مع ابنائهما، فتاة شابة في الثامنة عشر من عمرها، تستعد بعد أشهر قليلة لترك المنزل وبدأ حياتها كطالبة في الجامعة، وابن في الخامسة عشر، حيث حياة عادية لأسرة، هناك عائل (نيكول) التي تعمل طبيبة، وجولز (ربة المنزل) المسئولة عن البيت والأطفال، لكن الفيلم بدأ من لحظة يبحث الجميع فيها عن التغيير، هربا من الملل والجمود والرتابة التي تحيط بهما من كل جانب، أو بحثا عن شيء مفقود في حياة أسرة تديرها امرأتين مثليتين، رجل، الكل كان يبحث عن (رجل) لأسباب مختلفة!

في لحظة يقرر الابن (ليزر) أن يحث شقيقته (جوني) أن يبحثا عن والدهما البيولوجي، فقط من باب الفضول، لكن في الخلفية كان (ليزر) يشعر بالغيرة من صديقه الذي يمتلك (والدا)، كان يفتقد احساس الاقتراب من الأب، أما جوني كان يحركها رغبتها في تلبية رغبة شقيقها ليس إلا، هي أصبحت بشكل أو بآخر منفصلة عن حياة هذه العائلة؛ لأنها ستغادر قريبا، فأصبحت غير مهتمة بالبحث في الماضي أو حتى متابعة ما يحدث في حاضر الأسرة، لكن ما أن وجدا (بول) تغير كل شيء بالنسبة لها، كما بالنسبة لشقيقها وللمرأتين أيضا!

(بول) الذي يؤدي دوره مارك رافالو، رجل خمسيني عابث مازال وسيما، لديه مزرعة ومطعم، يواعد النساء، ولديه حياة صاخبة، لكن بداخله، كان الملل من هذه الحياة بدأ يتسرب إليه، أصبح تواقا إلى حياة العائلة التي يفتقدها، فهو لم يتزوج قط، وحياته خالية من البشر باستثناء النساء اللاتي يواعدهن من أجل الجنس فقط، ولذا عندما جاءت له (مفاجأة) من الماضي لم يتجاهلها، بل أمسك بها!

(بول) كان يتبرع بحيواناته المنوية لمدة عامين بين (1991- 1993)، عندما كان في الـ 19 من عمره، ربما كان في حاجة إلى المال، ربما كان يعتبرها فكرة متمردة وعابثة كشخصيته، لكن ما لم يتوقعه، بعد 19 سنة أخرى أن يرغب أبناء له في رؤيته والتعرف إليه، لكن هذا ما حدث.
لقاءه الأول بالولدين كان متوترا، لكن الثلاثة كانوا عازمين على استكمال هذا التعارف، وربما الوصول إلى علاقة عادية بين أب وابنائه، لكن ما حدث هو أن تحول (بول) بالنسبة لهذه الأسرة لـ دخيل، شخص غير مرغوب فيه، بعد سلسلة من الأحداث، انتهت بطرده والعودة من جديد إلى ما بدأنا به، أسرة مستقرة يسودها الحب والملل!

أكثر ما لفت انتباهي في هذا الفيلم هو شخصية (بول)، على عكس المرأتين، نيكول وجولز، ليس فيهما شيئا جديدا يقدمه الفيلم، امرأتين مثليتين متزوجتين ولديهما علاقة طويلة، وكأي علاقة يسودها الفتور والرتابة، مع سطوة طرف على آخر، فيبدأ الطرف الأضعف في محاولة الخروج من تلك الدائرة بطريقة ما، ثم يعود، ليس شيئا جديدا حتى على العلاقة العادية بين رجل وامرأة كزوجين، لكن (بول) هو الملفت هنا، هو الحكاية التي كانت تستحق أن تُروى بقدر أكبر من الاهتمام والتركيز، وليس كما حدث في الفيلم، كشخص يحرك المياه الراكدة في حياة أسرة، ثم يخرج بهدوء وينتهي الفيلم بنهاية سعيدة!

لنروي قصة (بول) بطريقة آخرى، شاب في الـ 19 من العمر، كان يدرس العلاقات الدولية في الجامعة، لكن لم تعجبه حياة الجامعة، ورأي أنه يمكن أن يتعلم من خلال قراءة الكتب، يذهب ليسجل في ما يمكن تسميته بـ “بنك الحيوانات المنوية”، يمنح جزءا منه مقابل مبلغ مالي، على مدار عامين، يمكن أن يكون له عشرات الأبناء، وعندما سأله (ليزر) لماذا كان يفعل ذلك؟، تردد قليلا، ثم قال: أرى بأن ذلك مسلي، وهو أفضل من التبرع بالدم.. صمت مرة أخرى ثم وجد إجابة جديدة:
انا أحب هذه الفكرة، مساعدة أشخاص بحاجة إلى أطفال ولكنهم لا يستطيعون الإنجاب.. كان ذلك منذ وقت طويل، أنا سعيد لأني فعلت ذلك!

أعتقد بأن (بول) بتلك الإجابة كان يكذب ببساطة، أراد أن يجعل من تصرفه العبثي فكرة إيجابية وقصة نجاح ملهمة لـ ليزر، أراد أن يبدو مثلا أعلى لأبنه الذي اكتشفه حديثا، لكن ربما يكون تصرفه تمردا وجزءا من العبث الذي كان يسود حياته في تلك الفترة، أو رغبة في جني المال بأبسط الطرق وبدون عمل حقيقي أو تعب، خاصة بأن حياته فيما بعد تلك المرحلة لا تنم عن رغبة في مساعدة الآخرين، رجل بشكل أو بآخر امتلك مزرعة صغيرة للمحاصيل العضوية، ملحق بها مطعم يقدم الطعام باستخدام هذه المحاصيل، مشروع صغير لرجل في الخمسين من عمره، بدون عائلة، ويكتفي بمواعدة الشابات الصغيرات، ولا يهتم بإرهاق نفسه بأن يسألها أي أسئلة أو يضع أي حسابات عندما يقترب من امرأة تعجبه!
دخل (بول) إلى دائرة عائلة جولز ونيكول ولديه رغبة في أن يغير نمط وشكل حياته، لكن بمنطق رجل أناني، مازال لا يرغب في أن يبذل أي مجهود، وجد عائلة جاهزة، بدون تعب أو مشقة، أبناء رائعين في مرحلة الانطلاق وترك منزل العائلة، فنسمعه وهو يتحدث إلى المرأة التي يواعدها، ليخبرها برغبته في الانفصال: لا أريد أن أكون الرجل الخمسيني الذي يتجول بمفرده، أريد بشدة أن أكوّن عائلة، واحتاج أن أقوم بذلك مع شخص مستعد أن يكون هناك من أجلي!

هو ببساطة، لم يقل أنه أحب ولديه، أو أحب والدتهما التي كان يمارس معها الجنس، بل أراد ألا يصبح بمفرده، أراد أن يكون جزءا من عائلة تعتني به وهو يكبر، لم يتحدث عن دور له في حياة هؤلاء الذي هبط عليهما كالمنطاد، مازال هو نفسه لم يتغير، رجل عابث تقدم في العمر فقط، هو نفسه (بول) صاحب الـ 19 عاما!
لنعود إلى المقارنة بين “بشتري راجل” و هذا الفيلم “الأطفال بخير”، صناع الفيلمين أختارا النهاية السعيدة للحكايتين، نهاية ترضي الجميع، لا تُغضب أحدا، وإن كان “بشتري راجل” انتصر للتغيير، تغيير الأفكار، فتغير مصير الأبطال، لكن في “الأطفال بخير”، جعل البداية تساوي النهاية، وكأن دخول (بول) إلى حياة العائلة وخروجه منها كان زوبعة في فنجان، ليس أكثر، مع إن دخوله أصلا كانت نتيجة احتياج له، هم من استدعوه من الماضي، وطردوه عندما شكل تهديدا لاستقرار العائلة، لكن ماذا بشأن الاحتياج لـ رجل بصور مختلفة بداخل شخوص الحكاية، هل اختفى، هل توقف “ليزر” عن الاحتياج لأب، هل كرهت (جوني) وجود رجل في حياة أسرة امرأتين مثليتين، هل جولز لم تعد تشعر برتابة حياتها مع (نيكول)، هل لم تعد تشعر بأنها اقل شأنا، وأقل ذكاء منها، وترغب في علاقة آخرى تعيد إلىها التوازن، هل (نيكول) نفسها التي حاربت (بول) منذ البداية، تعتقد أن ولديها ليسا في حاجة إلى أب، وأنها نجحت حتى الآن في أن تكون ربان السفينة؟!

“الأطفال بخير” أو The kids are all right فيلم لطيف، بدور مميزجدا لـ مارك رافالو، قدم زاوية ذكية للنظر إلى حياة أسرة غير اعتيادية، لكن ما أفسد الفيلم -في رأيي، هو مسار شخصية (بول)، ومعالجة القصة بحيث أصبح (بول) شخصية هامشية ومرحلية في حياة الأسرة، صحيح النبذ والطرد نهاية عادلة لرجل أناني، لكن كان هناك أفضل من ذلك، بالنظر إلى الطموح الكبير للفيلم منذ البداية.