“المثالية بدون خطأ” هكذا وُصفت مقدمة البرنامج الكوميدي Late night أثناء تسلمها جائزة لتميزها، لكن مع هذا التميز كانت “كاثرين نوبري” تعاني من إنخفاض معدلات مشاهدة برنامجها خلال عقد كامل، مما دفع المسئولين عن القناة في التفكير جديا بإستبدالها، وأمام هذا الخطر قررت أن تجري بعض التعديلات التي أثمرت في النهاية، لكن ما الذي اكتشفته “كاثي” خلال رحلتها للتغيير!

بداية أود أن نركز قليلا على ذلك التعبير الذي تم استخدامه لوصف “كاثرين” خلال مسيرتها المهنية كبريطانية نجحت في تقديم برنامج كوميدي بالولايات المتحدة الأمريكية وهو “المثالية بدون خطأ”، وهو التعبير الذي ظلت “كاثرين” أسيرة له طوال حياتها، فكانت تبحث دوما عن المثالية على طريقتها، بأن عينت فريقا للكتابة من الذكور وكلهم بلا إستثناء من الرجال أصحاب البشرة البيضاء، وعندما واجهها واحد من هؤلاء الكتاب بأن لديها مشكلة في توظيف النساء بفريق عمل برنامجها، فصلته وأخذت تفكر جديا في توظيف امرأة، أي امرأة، لتثبت للجميع بأنها ليست ضد تواجد النساء ضمن فريقها، ومن هنا دخلت الشخصية النسائية المحورية التي سيشكل وجودها تغييرا كبيرا في شكل ومضمون البرنامج، لكن التغيير ليس سهلا، ووجود عضو جديد خاصة لو كان امرأة من الملونين، تعمل في مصنع كيميائي، ولا تمتلك أي خبرة سابقة في مجال الكتابة الساخرة، كان تحدي لجميع فريق البرنامج بمن فيهم “كاثرين” التي أدت دورها إيما طومسون!

يجعلني تعبير “المثالية بدون خطأ” أفكر كثيرا في عدد النساء اللاتي انتظرت منهن مجتمعاتهن أن يصبحن مثاليات ولا يرتكبن أخطاء من أي نوع، فقررن أن يسرن على الحبل طوال حياتهن، خائفات من السقوط ومن ارتكاب الأخطاء لكي لا تتغير الطريقة التي يُعاملن بها، وحتى لا يفقدن الامتياز داخل عائلتهن أو في الوسط المهني الذي ينتمين إليه، وشخصية “كاثرين” لم تكن بعيدة أبدا عن النموذج الذي نتحدث عنه، امرأة ظلت طوال حياتها المهنية توصف بأنها “مثالية” و “ولا ترتكب الأخطاء” فأصبحت تخاف من التغيير حتى لا تكتشف إنها تقع في الأخطاء نتيجة التجريب، فتوقفت عن تجديد برنامجها لمدة عشر سنوات، لتجد نفسها في النهاية تواجه أزمة أخرى وهي إنها مضطرة أن تتركه ليتم استبدالها بشاب يمكن أن يواكب مزاج الجمهور الجديد..

هذا الخوف أيضا ما جعلها تقاوم-في البداية- الأفكار التي أتت بها “مولي” الوافدة الجديدة على البرنامج، ورفضت الانتقادات التي وجهتها “مولي” لطريقة العمل وعدم تواصلها مع فريقها ورفضها للمجازفة وعدم تقديرها للتعبير عن مشاعرها وأفكارها الخاصة، وعزوفها عن التواصل مع الناس وتفضيلها الاختباء داخل الاستديو، بالإضافة إلى احتقارها لوسائل التواصل الإجتماعي ورفضها أن يكون لها أي تواجد عليها!

لم تكن مهمة “مولي” سهلة، كان عليها أن تواجه امرأة قاربت على الستين عاما من العمر، متمسكة بتقاليد قديمة في تقديم البرامج التليفزيونية، مُنحت العديد من الجوائز في السابق، لكنها غير قادرة على تقبل فكرة إن التغيير فقط هو ما سيجعلها تستمر، وليست جوائز الإيمي أو الجولدن جلوب، من ناحية آخرى، وجدت “مولي” صعوبة في العمل داخل بيئة عمل من الذكور من أصحاب البشرة البيضاء، المتحذلقين، والمتعالين عليها بوصفها امرأة من أصول هندية وليس لديها الخبرة التي يمتلكونها في الكتابة لبرنامج ناجح، كان عليها أن تجد طريقة لكي تثبت نفسها وسط بيئة عمل صعبة ومغلقة، ولا تمنحها فرصة للتعبير عن أفكارها بحرية، حتى وجدت نفسها في مرة من تلك المرات التي قررت أن تقول رأيها بصراحة مطرودة من العمل ببساطة!

كان الفيلم ذكيا عندما كشف عن خيانة “كاثرين” لزوجها مع واحد من الكتّاب العاملين في فريقها، عبر فضيحة نشرتها الصحافة، فوجدت نفسها وهي تحاول أن تنقذ برنامجها عبر إجراء العديد من التغيرات أمام “فضيحة” هي نفسها تخجل منها وتلوم نفسها عليها كل يوم، فأصبحت هذه المرأة التي يقال عنها “المثالية بدون أخطاء” محل إنتقاد الجميع، فقررت العزلة لكنها في لحظة رأت أن المواجهة والإقرار بالخطأ مع الإعتذار لزوجها الذي تسبب في إيلامه هو سبيلها الوحيد، وليس الاختباء والإنزواء، وهي بهذا كانت تنفذ نصيحة “مولي” التي سبق ورفضتها وطردتها من أجلها.. وكان الفيلم ذكيا أكثر عندما ألمح في خطاب “كاثرين” إلى أن مثل هذه التصرفات التي تطلق عليها الصحافة اسم “فضيحة” ما كانت لتذكر لو أن ما قام بها رجلا، لكن لما إن “كاثرين” امراة كان عليها أن تواجه “الفضيحة” وتتحمل تبعاتها حتى لو كان ترك برنامجها وقبول التقاعد كخيار وحيد!

الفيلم الكوميدي Late night -إنتاج 2019- واحد من الأفلام الجميلة التي تجعلنا نفكر كثيرا في التعقيدات التي تحيط بالنساء في كل مكان، تدفعهن للقتال وبذل مجهود مضاعف من أجل إثبات الذات في بيئة عمل ترفض ذكورية لا تقبل بسهولة تفوق النساء، بالإضافة إلى المجتمع الذي ينتظر من النساء أن يتصرفن بمثالية ولا يرتكبن الأخطاء، مما يعني أن يتوقفن عن ممارسة حياتهن خوفا من ارتكاب أخطاء تدفع المجتمع لنبذهن، كما إنه أشار وبوضوح إلى حتمية التنوع في بيئة العمل كسبيل وحيد إلى التميز وليس المثالية أو امتلاك مسيرة مهنية خالية من الأخطاء.