لماذا تحتاج الراقصة في السينما المصرية إلى خادم من “الجنس الثالث”

حاولت أن أجد معلومات موثقة تقول لنا ما أصل هذه المهنة “صبي العالمة/الراقصة”، لكن المعلومات المتوفرة ضئيلة للغاية، وتقول إن هذا الشخص، كان يرتدي زيا يشبه إلى حد كبير زي الراقصة، ودوره كان أشبه بدور “المشجع”، كان يقول لها مثلا “الله عليكي”، أو تنويعات مختلفة على هذا المعنى. أو ربما كان يدق على “الصاجات”..

ما دفعني لكتابة هذه التدوينات هو محاولة لمعرفة لماذا أدخل صناع السينما هذه الشخصية في الأفلام، أي دور لعبته في سياق الفيلم، خاصة إن هناك ممثلين عُرفوا بأداء هذه الشخصية (فاروق فلوكس مثلا)، ومن ناحية آخرى معرفتي إن أداء هذه الشخصية ليست مسألة سهلة على الممثل، وهناك من ندموا صراحة على أدائها مثل عادل إمام مثلا، فقد أعتبر أدائه لهذه الشخصية في فيلم “سيد درويش” بمثابة “سقطة” في تاريخه كممثل، وهناك ممثلين قالوا إنهم لن يكرروا التجربة مثل عمرو عبد العزيز مثلا الذي أدى هذا الدور في فيلم متواضع اسمه “أيظن”.. بنظرة سريعة ستجد أن من أدي هذا الدور في أفلامنا هو ممثل كوميدي بالأساس، داخل سياق فيلم جاد (في معظم الحالات)، بداية من فيلم سيد درويش إلى أفلام مثل: النداهة، الراقصة والسياسي، شوارع من نار، درب الهوى، أرض الخوف..

ربما كان صناع هذه الأفلام يحاولون إدخال لمحة كوميدية داخل أفلام جادة وثقيلة، لكن السؤال هنا: هل فعلا هذه الأدوار نجحت في إنتزاع الضحكات من الجمهور؟!، أنا لم أشعر أن هناك أي كوميديا في مشاهد هذه الشخصيات، ربما هناك دهشة من الحركات التي تؤديها الشخصية، طبقة الصوت المستخدمة، الكلمات التي توضع على لسان الشخصية.. الخ، لكن ضحك.. أشك!

وهناك أفلام كانت هذه الشخصية جزءا من نسيج الفيلم ومساهم رئيسي في تحريك الأحداث مثل دور “فاروق فلوكس” في فيلم “الراقصة والسياسي”، وهناك من وضع الحكمة على لسان الشخصية مثل فيلم “أرض الخوف” لداوود عبد السيد.

صورة متداولة عن صبي العالمة تعود إلى العام 1862

في الحياة، ربما نستطيع أن نتصور لماذا تحتاج “راقصة” إلى شخص يبدو في الظاهر رجلا لكنه يؤدي حركات أنثوية، لا يوجد إجابات قاطعة، لكن ربما من أجل الإبهار واعتبار هذه الشخصية بتركيبتها عنصر جذب للعرض، مثل سمير غانم الذي كان يأتي في مسرحياته بمجموعة من الأقزام، خصوصا إن هذه الشخصية مع الوقت كانت جزء من العرض، فالراقصة تؤدي دورها وهو خلفها ربما يدق الصاجات أو يتحدث إليها بكلمات ما، لكن في السينما ما الدور الذي يؤديه “صبي العالمة”، خاصة إنه في مرحلة ما من تاريخ الرقص لم نعد نرى هذه الشخصية، مثلا في عروض تحية كاريوكا ومن قبلها بديعة مصابني، أو نعيمة عاكف، سامية جمال، نعمات مختار، حتى الأجيال التالية، لم نرى هذه الشخصية، فلماذا أستدعتها السينما من جديد، وما الدور الذي يلعبه هذا الشخص في سياق الفيلم وأحداثه. هذه التدوينات القصيرة تحاول فهم هذا الدور في الأفلام السينمائية، وبالمناسبة ليست كثيرة، بضعة أفلام، مع ملاحظة إن الشخص الذي يبدو كرجل/امرأة في نفس الوقت في العموم كان عنصر أساسي في أفلام مثل: البيضة والحجر، لو تتذكر الشخصية التي لعبها فؤاد خليل، الكوافير الحريمي، وهناك شخصية زوج تحية كاريوكا في فيلم “خلي بالك من زوزو”، أو حتى شخصية عادل أدهم في فيلم “الراقصة والطبال” وتلك الحركات التي كان يأتي بها وتعطي إنطباع إنه تنويعة آخرى على “صبي العالمة”!

في مقال “أدهم يوسف” على موقع مدى مصر بعنوان “من لوسي إلى “حاتم رشيد”: كيف تؤثر السينما المصرية على الخطاب الاجتماعي تجاه المثليين والمثليات؟ يعرض “يوسف” لمحة تاريخية على وجود ما يسمى “صبي العالمة”، فيقول: “تاريخيًا؛ وبعدما تمّ حظر الغوازي بقرار من السلطان العثماني عام 1840، استبدلهن أصحاب الحانات بشبّان وسيمين يرتدون ملابس نسائية، وكان يطلق عليهم اسم “كوتسك” بالتركية، وقيل أن هذا الأمر حقق نجاحًا ساحقًا”، لكن كيف ومتى تحول من يقدم عرضا منفردا كبديل عن الراقصة إلى صبي/مساعد للراقصة نفسها، لا أعرف!

عادل إمام في فيلم سيد درويش 1966

لا أعرف نموذج في السينما المصرية يسبق ظهور (عادل إمام) وأدائه لدور “صبي العالمة” في فيلم السيرة الذاتية “سيد درويش”-إنتاج 1966، ربما يكون هناك ممثلين آخرين قد سبقوا (عادل إمام)، لكنِ لا أعرفهم.. لكننا بالتأكيد نعرف أن هذا الدور تحديدا هو الوحيد الذي يكرهه “عادل إمام” نفسه، في مشواره الفني، وقالها صراحة في أكثر من لقاء تليفزيوني إنه لا يحب مشاهدة فيلم “سيد درويش” بسبب دوره فيه!

تبحث هذه التدوينات عن السبب الذي يدفع صناع السينما إلى إقحام هذه الشخصية داخل فيلم سينمائي، ولماذا يعتقدون إن العالمة/ الراقصة هي دائما في حاجة إلى شخص في هيئة رجل لكن يتصرف كراقصة محترفة، وليس امرأة عادية، بل راقصة.. يكفي أن تراقب طريقة وسلوك الراقصات في الفيلم لتعرف إن “عادل إمام” يقلدهن بالضبط في أدائه لهذه الشخصية.

فيلم “سيد درويش” دراما/غنائي يقدم رؤية بانورامية سريعة جدا لحياة فنان الشعب “سيد درويش”، كل شخوص الفيلم من المفترض إنها حقيقية، لكن لا نستطيع أن نجزم أن الشخصية التي قام بأدائها “عادل إمام” هي حقيقية، حتى إن الفيلم لم يهتم بإعطائه “اسما”، بل تُرك هكذا لنعرفه بـ صبي الراقصة “جليلة”!

تظهر الشخصية التي يلعبها “عادل إمام” في بداية الثلث الثاني من الفيلم، بعد أن أصبح “سيد درويش” شابا، مازال يرتدي الملابس الأزهرية على الرغم من طرده من الدراسة في الأزهر، وبداية تعارفه على الراقصة “جليلة”.. نرى تلك الشخصية ترتدي جلبابا أبيضا ويمسك بمبخرة ويقول لـ عباس-أمين الهيندي:”حادرجا بدرجا من كل عين زرقا.. رقيتك واسترقيتك..” ثم يكمل “ده بخور ناموا وقاموا واللي يتبخر بيه ينول مرامه “مراده”! وبالطبع يتحرك بطريقة تشبه النساء بالتحديد الراقصات منهن، ويستخدم يديه وتقاسيم وجهه بطريقة لافتة مع نبرة صوت ناعمة للغاية!

نعرف إن هذا الشخص يقوم بدور خادم “جليلة” لكن لماذا تحتاج هي لشخص مثل هذا رجل/امرأة ليكون خادم، في السينما عادة المرأة تستعين بخادمة امرأة، أما أن تكون امرأة وتستعين بخادم ذو طبيعة خاصة مثل هذا، فهو الأمر الغريب والذي لم يفسره الفيلم، حقيقة هذا الشخص لم يتوقف دوره في الفيلم على إنه “خادم” يستقبل الضيوف ويحضر الطعام وينظف المنزل، بل كان يصطحب “جليلة” أثناء عملها، فنراه في في مشهد تالِ يخاطب “جليلة” ويقول “العريس طالع يا أسطي، العاشق في جمال النبي يصلي عليه”، ثم يبدأ في إلقاء الملح على المدعويين من النساء وهو يرقص ويتمايل في محاولة لتقليد سيدته، كما إنه دائم الابتسام، ولا نعرف لماذا يضطر هذا الشخص أن يبتسم باستمرار مهما كان الموقف الذي يجسده المشهد!

من المفترض أن الفيلم تدور أحداثه في أوائل القرن العشرين-سيد درويش مات سنة 1923، وربما يكون الاستعانة بهذا الشخص لإن تاريخيا كانت موجودة في الواقع، يعني أن راقصات هذا الزمان كن يستعين بهذه الشخصية في عملهن، وبالطبع لا يوجد مرجع تاريخي-حتى الآن- يمكن الاستناد إليه في معرفة أبعاد هذه الشخصية، طريقتها، دورها بالتحديد، وهل يمتد خارج إطار العمل أم لا، لكن الفيلم دفع بهذه الشخصية ربما لمنح الفيلم لمسة كوميدية، خاصة وإنه يروي سيرة ذاتية لفنان ليس كوميديا ولا يوجد في الفيلم ما يمكن أن نعتبره ساخرا، فتم الدفع بهذه الشخصية لكى “تلطف” من أجواء الفيلم قليلا، بهذه الحركات المبتذلة والتمايل والرقص، والجمل التي وضعت على لسان الشخصية مثل “يالهوي” و”خليه والنبي يديني عصاية الغلية” و “يا مصيبتي” و “أصل النهاردة خميس رجب يا ددلعدي”، بالإضافة إلى حالة الرقص المستمرة لهذه الشخصية، فإذا كانت الراقصة تؤدي عملها بالليل فقط، فهذه الشخصية التي لم نعرف لها اسما، ترقص بالليل والنهار، وتستخدم الجسم وقسمات الوجه كجزء من حوار الشخصية. لست متأكدة إذا كان “عادل إمام” نجح في أن يخلق كوميديا داخل الفيلم بهذه الشخصية، أنا شخصيا لم أشعر بأي شيء يستدعي الضحك ولو على سبيل الابتسام!

سيف الله مختار في فيلم “النداهة” 1975

لا يختلف دور سيف الله مختار في فيلم “النداهة”-إنتاج 1975- عن دور “عادل إمام” الذي سبق وأشرنا إليه، من حيث المساحة أو السياق الذي وضعت فيه هذه الشخصية، لكن هذه المرة نحن نعرف اسمه “خوخة”!

فيلم “النداهة” المأخوذ عن قصة للكاتب يوسف إدريس، يروي قصة “فتحية” الفتاة الريفية التي ترغب في الحياة بالعاصمة وتتزوج من “حامد” الذي يعمل حارسا لعقار في واحد من الأحياء الراقية بالقاهرة، ويسرد الفيلم التحولات التي تحدث لشخصية “فتحية” والصدمات التي تتعرض لها، ومع ذلك ترفض كراهية “مصر” وترغب في الحياة فيها ومواصلة طموحها للتعلم والعمل والاستقلال بعيدا عن زوجها ووالدتها وحياة الريف بمن فيها!

بالطبع نحن أمام فيلم جاد، ولا يوجد في نسيجه الأساسي ما يجعله مرحا أو خفيفا، على العكس فالفيلم شديد القتامة، لذا لجأ صناع الفيلم إلى إقحام شخصية “خوخة” صبي العالمة/الراقصة الذي أدى دوره “سيف الله مختار”، دور صغير وغير مهم في سياق الفيلم، فقط لكي يجبرنا على الضحك.. يظهر “خوخة” في بداية الثلث الثاني من الفيلم، أول مشاهده نراه يقف على سلم العمارة، يخبط على صدره ويقول “يا لهوي البوليس مسك واحدة في شقة الطلبة وعاملين فضيحة.. استر علينا”، ثم ينزل مع سكان العمارة ليشاهدوا الضابط وهو يقود المرأة العارية إلى سيارة الشرطة، فيقول لضابط المباحث “معلش يا بيه خليك حنين على الولايا”، وهو نفسه الكلام الذي ستردده نعيمة الصغير بعد ثواني!

هناك جاذبية في أداء سيف الله مختار لدور صبي العالمة، تختلف عن شكل الشخصية التي أداها عادل إمام في فيلم “سيد درويش”، على الرغم من إن الرجلين قد قاما بنفس الحركات، وقالا نفس الكلام تقريبا، واستخدما حركات أيديهما ونبرة صوت خاصة، لكن هناك شيء أكثر جاذبية وتميزا في أداء سيف الله مختار، ربما لإنه ألطف من عادل إمام، ولديه قدرة على الأداء التلقائي البسيط بدون تكلف أو التعالي على الشخصية التي يؤيدها، أو احتقار لها، ربما هذا الاحتقار كان باديا على أداء “عادل”، يمكن للمشاهد أن يلمس كراهية الممثل للدور الذي يؤديه، لكن “سيف الله مختار” كان بسيطا وغير مبالِ.

استعاد “سيف الله مختار” هنا بعضا من أدوار الشخصية الأصلية لـ صبي العالمة، فقد وقف ماسكا بالبخور وأخذ يدور حول الراقصة “الهام”-سهير الباروني، وهو يقول لها:”يا غيظاهم.. يا كيداهم.. اتبخري يا اختي اتبخري”، اللافت هنا أن الراقصة ووالدتها كان لديهن خادمة بالفعل ولسن في حاجة إلى خادم امرأة في هيئة رجل، لكن الفيلم لم يهتم كثيرا بالسبب الذي يقف خلف تواجد مثل هذه الشخصية في حياة الراقصة، خاصة وإن هذا الدور قد انقرض منذ زمن بعيد ولم تعد الراقصات يستعين بـ صبي العالمة لكي يصاحبهن أثناء أدائهن لعروضهن، لكن فيلم “النداهة” لا يهتم بإيجاد مبرر درامي لتواجد “خوخة” سوى إنه شخصية مرحة ستضفي على الفيلم الكئيب بعضا من الكوميديا، لذا كانت آخر مشاهده في الفيلم هي أكثرها ظرفا، حيث يقف وسط دائرة من الراقصات المحترفات، ليودعن “الهام” بسبب سفرها إلى “أبو ظبي”، كان “خوخة” يرقص وهو يقول “هيما أوعي حد يضحك عليكي هناك، حاكم أنا عارفك ساذجة، ساذجة يا أختي، ساذجة أوي”، ثم يتبع الزفة وهو يمسك بتذاكر السفر بين يديه وهو يزغرط!

نجاح الموجي في فيلم شوارع من نار 1983

منح “شوارع من نار” مساحة أكبر-بالمقارنة بالفيلمين السابقين- داخل نسيج الفيلم لشخصية “قرني” التي أداها “نجاح الموجي”، هذه المرة “قرني” ليس صبيا لراقصة بل واحدا من طاقم كبير يعمل داخل دار للبغاء المرخص في شارع كلوت بك، في أربعينيات القرن العشرين.

يحكي فيلم “شوارع من نار”-إنتاج 1984- قصة الشاب الريفي “إمام” الذي جاء إلى القاهرة للعمل شرطيا، وتم توزيعه على منطقة البغاء المرخص في شارع كلوت بك بالقاهرة، لحفظ النظام، سرعان ما اصطدم بسكان هذا الشارع، قبل أن يدرك أن عملهم قانوني، وفيما بعد عندما حاول الدفاع عن فتاة شابة داخل إحدى هذه البيوت وفقد سلاحه الميري عوقب بالجلد، ثم طُرد من الخدمة، ليجد نفسه في الشارع غير قادرا على مواجهة والده بالحقيقة، وبعد أن جرب “إمام” الجوع والتشرد كان مستعدا نفسيا لقبول أي وظيفة يمكن أن تمنحه المال والنفوذ من جديد، لذا لم يكن صعبا عليه أن يقبل أن يكون “قوادا” لبيت من البيوت التي كان يبغض أصحابها في الماضي، بدون أن يشعر بالندم على التحول في حياته من شرطي واعد إلى قواد!

يمكن هنا ملاحظة التشابه بين بطل هذا الفيلم وبطل “شباب امرأة”، فشكري سرحان في الفيلم الأخير كان شابا ريفيا يدعي “إمام” أيضا، جاء هو الآخر للقاهرة من أجل الالتحاق بكلية دار العلوم، لكنه وقع في شباك امرأة شبقة تكبره سنا، وسرعان ما نسي الدراسة وتدهورت أحواله إلا أن منحه القدر بداية جديدة عندما قُتلت “شفاعات” على يد حبيبها القديم، ووجد هو الدعم والمساندة من حبيبته الشابة “سلوى”!

يتشابه فيلم “شوارع من نار” أيضا مع فيلم عُرض في العام السابق له، وهو “خمسة باب” بطولة عادل إمام ونادية الجندي، فـ شوارع من نار حاول استثمار نجاح “خمسة باب” في سيناريو مبني على نفس القصة لكنه حاول أن يقدم بطلا مختلفا، لا يشعر بالندم على تحول حياته، ويستمتع بنفوذه الجديد كـ فتوة وقواد مسئول عن واحد من البيوت المرخصة، يجد نفسه أمام مشكلة جديدة بعد أن ألغت الحكومة البغاء المرخص، فأضطر أن يستبدل المنزل بـ ملهى ليلي يعمل به نفس الأشخاص سكان المنزل، حتى لا يخسر نفوذه والأموال التي كان يكسبها!

منحت قصة الفيلم والإطار الزمني الذي يدور فيه مساحة مهمة في قصة وسيناريو الفيلم لشخصية مثل “قرني”، كواحد من الفئات التي أفرزها وجود قانون لترخيص بيوت البغاء، يمتلك “قرني” السمات نفسها التي حملها صبي العالمة في فيلمي “سيد درويش” و “النداهة” من حيث تقليد طريقة حديث النساء/الراقصات واستخدام نفس تعبيراتهن، بالإضافة إلى الخضوع في مواجهة الرجال واستخدام طبقة صوت “ناعمة”، لكن شخصية “قرني” تثير الحيرة بعض الشيء، هل هو فعلا إنسانا يجمع في تكوينه خليطا بين الإناث والذكور، أم أنه واحد من هؤلاء الأطفال الذين وجدوا أنفسهم ينشأون في بيوت البغاء وسط عاملات الجنس والراقصات والفتوات والقوادين، فوجد نفسه أقرب إلى تقليد الإناث ولعب أدوارهن في مواجهة الرجال كسبيل للعيش، كشخصية لم تتعلم ولم تجد مساحة للكشف عن مواهبها الأصلية غير تقليد حياة النساء عاملات الجنس. ربما مع شخصية “قرني” كلا الاحتمالين واردين، أن يكون بالأساس نموذج منبوذ و موصوم كإنسان يجمع سمات من الجنسين فوجد القبول من مجتمع آخر من المنبوذين والموصومين ومحددي الإقامة في شارع بعينه وهم العاملات/العاملين في منطقة البغاء المرخص، أو أن يكون اكتسب هذا الأسلوب والسلوك من اقترابه اليومي من عاملات الجنس!

أول مرة نرى شخصية “قرني” في “شوارع من نار” كان في الربع الأول من الفيلم، على عكس السابق، كانت شخصية مهمة ولها دور منذ البداية وحتى النهاية، وتشهد تحولات مع كل تغيير يطرأ على شارع البغاء المرخص، منذ قدوم “إمام”، فنراه يجلس ملتصقا بـ “نعيمة الصغير” التي تلعب دور قوادة تدير بيتا للبغاء، وتتحدث إلى رجل يقول لها:”إحنا كنا بنتعامل مع زينب عصفور”، فترد عليه ساخرة:”يا خويا الحمد لله إنك خلصت منها، ده الستات اللي عندها سوابق”، فيلتقط “قرني” طرف الحديث قائلا:”سوابق إيه يا أبلتي دول رجالة”، فتضحك وتحتضنه!

هنا لأول مرة نرى شيئا من الحميمية بين المرأة/الراقصة وبين “صبيها” أو تابعها، في السابق كنا نراه مجرد خادم أو مساعد لها، حديثها له أوامر، وتعتبره على أكثر تقدير وسيلة لتسليتها أو تسلية ضيوفها في غيابها، وأثناء عملها تعتمد عليه في تهيئة الجو لظهورها، لكن مع “قرني” كنا نرى أن العلاقة التي تربطه بسيدته تجعله أكثر من مجرد خادم، كان يبدو كصديقا أو شخصا مألوفا ومحبوبا ولا مشكلة من التباسط في التعامل معه أمام الناس، مع ملاحظة أن هنا هو بيت للدعارة، النساء فيه أيا كان مركزهن مختلفات عن الراقصة، عملهن -كما رأينا في الفيلم- كان له تأثير على تواصلهن مع الآخرين رجال ونساء، فلا بأس من القبلات والاحضان والتقارب الجسدي أو الجلوس مع بعضهن بملابس خفيفة!

في الجزء الثاني من الفيلم، تتغير موازين القوى، فـ إمام ينتصر في معركة على “جلال”-لعب دوره سيد زيان- فتوة الحارة ومدير نفس البيت الذي تمتلكه “نعيمة الصغير”، فتُنصب الحارة “إمام” بطلا لها ويجلس في مكان”جلال”، فتوة وقواد جديد، فيقف “قرني” محاولا أن يبدو غاضبا على مصير “جلال” ويقول “آه يا حتة مفيهاش راجل”، وعندما يجد “جلال” مستسلما للهزيمة ومغادرا الحارة يقول “آه يا حتة مفيهاش رجالة، اللي يجي على الولايا ميكسبش” في إشارة إلى أنهم جلال وأتباعه هم “الولايا”!

نتصور هنا أن دور “قرني” قد أنتهى وسيختفي بهزيمة “جلال”، وإنه كان مجرد لمحة من الكوميديا في قصة الفيلم السوداوية، إلا إن الشخصية تفاجئنا وتعود من جديد متزعمة مساعدي “جلال” المهزومين” تتسول بالنيابة عن الجميع للعودة من جديد للعمل، قائلا لـ إمام:”بلا قافية يا سي إمام إحنا شفنا أيام صعبة أوي مع جلال وانت عارف ملناش كار غير ده”، ولم يرفض إمام أن يعود الجميع كمساعدين له!

مع الوقت بدأنا نفهم أن لـ “قرني” دور يتعدى كونه مسليا أو شخصا ظريفا “أراجوز” ضمن حاشية الراقصة/ القوادة، أو إضفاء بهجة على جو الفيلم، خاصة في ظل وجود عدد من الكوميديانات في الفيلم، بل هو شخصا مهما لإدارة منزل البغاء المرخص، يعمل كهمزة وصل بين الفتوة المسئول عن المنزل وبين الفتيات، توكل له مهام مختلفة كل يوم، وهو شخصية من ضمن شخصيات عدة أفرزها وجود بيوت للبغاء المرخص في مصر، في أوائل القرن العشرين.

في النصف الأخير من الفيلم، جاء “قرني” منزعجا وهو يقول “مصيبة سودا وحطت على دماغنا، ما خلاص ما بقتش قرني، سحبوا مني تخصصي، الحكومة لغت الدعارة” وأعطاهم نسخة من الجريدة ليقرأوا نص القرار، أصيب الجميع بصدمة فالقرار سينهي عمل لا يعرفون غيره ولم يكونوا مستعدين لتغييره، وقفت “نوسة”-مديحة كامل- تطلب من الرجال أن يتزوجوا من النساء في المنزل ويبنوا حياة “نضيفة” بعيدا عن هذه المهنة، لكن “قرني” هو الوحيد الذي رد عليها قائلا :”سامعين خليكوا رجالة”، يعني هو يستثني نفسه من أي مهمة تُسند إليه كرجل!

لم يقبل “إمام” أن يفقد الامتيازات التي حصل عليها من العمل في بيوت البغاء، فوجد بديلا ان يحول البيت بمن فيه إلى “كباريه”، ويتم توزيع الجميع كراقصين ومطربين وفناني منولوج، وكان نصيب “قرني” أن يكون “مونولوجست” فوقف على المسرح يقول “حنكورة حكالنا حكاية حتقلب حالنا حوشونا حرام…”. أكتشف “قرني” في نفسه موهبة جديدة غير “كاره” القديم!

فاروق فلوكس في فيلم “درب الهوى” 1983

في العام نفسه الذي أُنتج فيه فيلمي “خمسة باب” و “شوارع من نار” عُرض فيلم “درب الهوى” إنتاج وإخراج حسام الدين مصطفى، معالجة آخرى للقصة نفسها، لكن بدون ضابط شرطة يهبط فجأة على منطقة البغاء المرخص، لكن صناع الفيلم احتفظوا بالفترة الزمنية وبكل الأجواء والشخصيات التي تضمنها الفيلمين السابق الإشارة إليهم، مع إضافة شخصيات آخرى مثل شخصية الباشا “عبد الحفيظ طوسون” التي أداها حسن عابدين، وشخصية الأستاذ الجامعي “عبد العزيز” التي أداها أحمد زكي، وبالطبع كانت شخصية “صبي العالمة” جزءا من عالم عاملات الجنس في “لوكاندة البرنسيسات”، ولأول مرة يؤديها فاروق فلوكس، ويمكن أن نعتبر إن أدائه لهذا الدور كان جواز مروره لأداء شخصية “ترتر” في فيلم “الراقصة والسياسي”.

يدور فيلم “درب الهوى” في فترة الأربعينيات” من القرن الماضي، في منطقة تسمى “درب طياب” بالأزبكية، ومخصصة لممارسة البغاء المرخص، مع التركيز على عاملات “لوكاندة البرنسيسات” التي تديرها “حسنية”-شويكار- بمساعدة ابن واحدة من العاملات في هذا المجال “صالح” ابن فانتازيا-محمود عبد العزيز، يزور هذا المنزل ويمثل الحماية له من الإغلاق شخصية سياسية معروفة يدعى “عبد الحفيظ باشا طوسون” زعيم حزب يسمى الفضيلة والشرف، فيدعو في الصباح إلى إلغاء البغاء المرخص حماية للأخلاق، لكن في المساء يذهب إلى “لوكاندة البرنسيسات” حاملا طبلة باحثا عن عاملة جنس تسبه وتهينه قائلا كلمته الشهيرة “أنا عايز واحدة تهزأني”، يدخل على الخط أستاذا جامعيا، وهو خطيبا لابنة السياسي “طوسون” باشا وفي الوقت نفسه ابنا لأخته، عبد العزيز-أحمد زكي، أثناء اجرائه بحثا عن الفقر يطلب من صديقه “زير النساء” مراد-فاروق الفيشاوي- أن يصطحبه إلى بيتا للبغاء، وهنا يلتقي بـ أوهام-يسرا- التي يبادلها الحب لكنه يواجه الرفض من أمه وخاله حتى من صديقه دائم التردد على منازل البغاء، حتى يضطر إلى التخلي عن “أوهام” والزواج بالفعل من ابنة خاله التي يبغضها مراعاة للتقاليد التي ترفض زواج ابن أسرة ثرية من بائعة هوى.. وكان يمكن للفيلم أن يكون نسخة أفضل من فيلمي “خمسة باب” و”شوارع من نار” لولا المبالغات التي تضمنها الحوار وركاكة السيناريو وغياب هدف واضح من رواية الأحداث، فحتى إنقضاء نصف الفيلم كان واضحا غياب وجود أي رؤية لصناع الفيلم، لكن المشاهد يفهم بشكل أو بآخر أن الفيلم يريد أن يتحدث عن التناقضات التي يحملها البشر في بيئة تجبر الإنسان على الحياة بقناعين، وتضطر الفقراء من النساء إلى ممارسة البغاء قسرا، مع وجود طائفة من الرجال مستفيدين من هؤلاء النساء ومستغلين لهم على أكثر من مستوى!

في ثنايا هذا كله تظهر شخصية “سكسكة” واحد من الخدم الموجودين في “لوكاندة البرنسيسات”، يتولى مهام عدة في إدارة وتنسيق عمل الفتيات مع الرجال، ويعتبر همزة وصل بين إدارة المنزل والفتيات، ويؤدي الأعمال التي لا يرغب أحد في القيام بها، حالة “قرني” في شوارع من نار تتكرر هنا بحذافيرها، بإستثناء أن أداء فلوكس لشخصية “سكسة” كان بصورة تكاد تكون كاريكاتورية لشخصية “صبي العالمة”. نحن نرى شخصية بهيئة رجل لكنه يضع المساحيق على وجهه، يعتني بشكله كما تعتني النساء/الراقصات، ويتحدث مثلهن تماما، بالإضافة إلى إنه لا يعتبر نفسه رجلا، يتحدث إلى الجميع بوصفه أنثى، فيقول لـ شخصية “صالح” عندما حاول هذا الأخير أن يضربه “بس ما تقولش جدع” ويقول لـ سميحة -مديحة كامل “أنا أول ما جيت هنا عملت لهم ساذجة”، هذا يبدو اختلافا مع الشخصيات الأخرى، كلهم لم يكونوا يفصحوا عن إحساسهم سواء كان هذا الشخص الذي نراه رجلا أو امراة أو خليط ما بين الأثنين، “سكسكة” كان الوحيد من بينهم الذي كان واعيا إلى حقيقة هويته كـ أنثى بمظهر رجل، لكنه كان يحاول تقريب شكله وهيئته من النساء، لكن في الوقت نفسه كان هناك إشارات وتلميحات عدة خلال ظهوره على إن الجميع يتعامل معه بوصفه رجل “مثلي” أو على الأقل مزيجا بين الرجال والنساء لكنه “مثلي” يمارس الجنس مع الرجال!

أوحى الفيلم منذ مشهد الافتتاحية على أن “سكسة” سيكون شخصية مهمة داخل نسيج الفيلم، لكن العكس تماما ما أصبح واضحا في المشاهد التالية، “سكسة” هنا شخصية ثانوية، هامشية، وجودها أشبه بالديكور المرتبط بدار تدار للبغاء المرخص في فترة الأربعينات، وجوده ربما يثير الضحك وربما الأشمئزاز أو مزيجا بين هذا وذاك، هناك من يراه ويتجاهله، وهناك من يقول “إيه ده” وليس “مين ده”، اعتبره “عبد العزيز” عندما رآه أول مرة بأنه شيء وليس إنسانا، فرد عليه مراد “ده بحث تاني خالص”، وظل “عبد العزيز” مشدوها مندهشا من رؤيته لهذا النموذج البشري الغريب!

تشترك شخصية “سكسكة” هنا في كل الشخصيات التي تم تقديمها في غياب تاريخ الشخصية ومستقبلها، لا نعرف من أين جاءت، ولا نعرف أين ستذهب إذا أُلغيت بيوت البغاء المرخص، لا نعرف حقيقة مشاعره، لا نراه كإنسانا، بل دمية تتحرك وتثير السخرية أينما حلت، وهو لا يقاومها، أعتاد عليها، وأصبحت جزءا من حياته، حتى النبذ والاحتقار يتقبلهما أيضا!

ليس خافيا أن “درب الهوى” نال نفس نصيب “خمسة باب” وتم سحبه من دور العرض بعد أسابيع من عرضه، لمخالفته الآداب العامة، ولم يعرض مرة آخرى إلا بعد 9 سنوات تقريبا، هناك بالطبع إفراط في المشاهد الجنسية، كان واضحا أن الرقابة قد حذفت الكثير من الحوار قبل عرضه في دور السينما، بالإضافة إلى أن هذا الفيلم يبدو إن الكثير من صناعه لا يحترمونه، مثلا الممثل حسن عابدين تبرأ من دوره في هذا الفيلم، كما إن فاروق فلوكس أعتبر إن ادائه عموما لدور “صبي العالمة” كان تنازلا منه لكي ينفق على أبنائه، أما بالنسبة للمشاهد هو شريط من المبالغة والإسراف في كل شيء!

فاروق فلوكس، الراقصة والسياسي 1990

أداء فاروق فلوكس لدور “شفيق ترتر” واحد من أشهر أدواره، وهو أيضا أشهر دور في تقديم “صبي العالمة” في السينما المصرية، نحن هنا أمام حالة شديدة الاختلاف عن النماذج السابقة كلها، “شفيق” مدير أعمال صريح لراقصة وممثلة سينما معروفة، أصبحت بسبب شهرتها صاحبة نفوذ ومنتمية لطبقة اجتماعية أعلى كثيرا من راقصات أفلام: سيد درويش، النداهة، درب الهوى، وشوارع من نار، لذا مظهر “شفيق” نفسه قد اختلف، لم يعد للجلباب الأبيض وجود، بل أصبح يرتدي بدلة كاملة أنيقة، ألوان مختلفة، لا أزياء غريبة لكن يمكن لبعض ألوان البدل أن تميل إلى الأحمر والأصفر خاصة في الفترة الزمنية التي عدنا فيها إلى الخلف، إلى فترة السبعينات، حيث بداية تعارف الراقصة “سونيا سليم” على “خالد مدكور” ضابط المخابرات الذي سيتحول فيما بعد إلى السياسي عبد الحميد رأفت!

بالطبع هناك تشابه بين “ترتر” والنماذج السابقة، فقد ظل محتفظ بنبرة صوت ناعمة، ويستخدم أثناء حديثه بعض الحركات النسائية، لكن بدرجة أقل، محاولا أن يبدو أكثر اتزانا وأقل استخداما لتعبيرات الوجه الفجة. منذ البداية نعرف إنه مدمن للمخدرات، كانت “سونيا سليم” حريصة أن تذكره دائما أن قواه العقلية وذاكرته قد تأثرت بسبب “حقن المكس” التي أدمنها!

ما زال الناس خاصة الرجال منهم ينظرون إلى “ترتر” على إنه نموذج بشري غريب، يخفون ضحكاتهم من حركاته وهيئته، لكن الأمر يصبح واضحا عندما يتعامل “ترتر” مع ضابط بوليس، أو رجل يبدو عليه إنه مسئول في الدولة، نصبح واعيين بالتناقض الجم بين “ترتر” وبين هؤلاء، وربما من هنا نلمح بعض الكوميديا، لكن في هذا الفيلم تحديدا لا يمكن اعتبار إن وجود شخصية “ترتر” كانت لإتاحة مساحة كوميدية في الفيلم الجاد، بل وجوده كشخصية مهمة وأساسية في نسيج الفيلم خلق مقارنة واضحة بين عالم “سونيا سليم” الراقصة، وعالم “عبد الحميد رأفت” السياسي، وإلى طبيعة الأشخاص الذين ينتمون إلى كلا العالمين، فأصبح واضحا للمشاهد العادي حجم الاختلافات بين من يحيطون بـ سونيا، ومن يديرون عمل السياسي، “سونيا” الراقصة العصامية التي بنت نفسها بنفسها لم تجد غضاضة أن يصبح مدير أعمالها شخصية بسمات “شفيق ترتر” وطباعه وعاداته الشخصية، كان طبيعيا كما سنرى، أن يحيط بها واحد من المنبوذين بوصفها -رغم شهرتها- واحدة منهم، لكن “عبد الحميد بيه” السياسي الذي كان ضابطا في المخابرات، ولديه صلات وثيقة برجال السياسة يحيط به أشخاص “عاديون”، منهم مثلا “برهان” الذي قام بدوره مصطفى متولي، شخص مكتمل الرجولة، يبدو إنه خلق لأداء هذا الدور..

مع ملاحظة أن “صبي العالمة” تاريخيا ينتمي إلى عالم الراقصات، لكنه لم يكن مديرا لعمل الراقصة بل جزء من العرض الذي تقدمه، لم يُلصق بالراقصة في السينما من العدم، الأمر له أصل واقعي، لكن مع التطور، وتغير الطبقة التي تنتمي إليها الراقصة والإطار الاجتماعي الذي تتواجد فيه كان من الصعب هنا وجود “صبي العالمة” لكي يكون جزء من عرضها على المسرح، أو عنصر جذب، لكن يمكن أن يتم استغلاله على نحو مختلف مثلما حدث هنا في “الراقصة والسياسي”، لكن هل وجود “ترتر” كمدير أعمال لـ سونيا كان يعني الانتقاص منها عند المقارنة بعالم السياسي؟ ربما نعم، وربما لا، لا أستطيع أن أجزم إنه كان مقصودا هنا الإساءة إليها، خاصة وإن رسم شخصية “سونيا” أو “سنية أبو العيون” كان يوحي بامرأة قوية وشجاعة ونموذج استثنائي، ومن ناحية آخرى السينما لا يبدو إنها تتعامل مع شخصية مثل “ترتر” باحترام، بل على العكس تقدم هذا النموذج دوما على إنه “غريبا” وتلصق به اتهامات وسمات تجعل قبوله أمرا صعبا على المشاهد، في الغالب وجوده يثير السخرية وترديد الكلام البذيء والنظرات المندهشة، لذا وجوده ضمن المحيطين بـ سونيا يمكن أن يكون ملمحا سلبيا في مقارنتها بـ السياسي، هنا “ترتر” مع سماته الواضحة التي تجمع خليطا بين الذكورة والأنوثة، مدمن للمخدرات “وحاجة تانية ألعن” كما وصفته “سونيا”، لكنه عالم من المنبوذين عموما في مقابل عالم المقبولين من المجتمع، والعالمين يتصارعان حتى ينتصر واحد منهم في النهاية، وأثناء الصراع نكتشف أن المجتمع يحب من يغشه، من يرتدي قناعا وينجح في إخفاء حقيقته، أما الشخص الذي يتصرف على طبيعته في الحقيقة منبوذ حتى لو كان مشهورا أو نجح في تكوين ثروة!

تمر “سونيا” بأزمة صحية تجعلها تعيد التفكير في حياتها كلها، اكتشفت هشاشة الشهرة وزيفها، اكتشفت إن رغم المجاملات التي تتلقاها ونظرات الاعجاب التي تحيط بها أينما ذهبت، إلا إن الذي يحيطون بها في الحقيقة يخجلون منها، فعندما مرضت ودخلت المستشفى امتلأت غرفتها بالزهور، وتجمع لدى شفيق عشرات الكروت التي وصلت مع الورد، لكن لم يأتي شخصا واحدا بنفسه لزيارتها فقالت لشفيق:”.. فيهم الكداب وفيهم الخايف على نفسه، وحتى اللي حبوني مفيش حد منهم قال الست دي قضيت معاها أيام حلوة لما أروح أطل عليها.. دوس عليهم برجليك ما يستهلوش”!

خرجت “سنية” من أزمتها الصحية ولديها رغبة في عمل شيء يجعلها محاطة بأشخاص تحبهم ويحبونها بصدق، فوجدت في ماضيها كفتاة يتيمة وفقيرة فرصة لكي تُنشىء دار للأطفال المشردين والأيتام، ولم تجد غير “شفيق” لكي تشكو له مدى السوء الذي أصبحت تشعر به في حياتها بعد دخولها المستشفى، فنراها على الشاطىء وحيدة ويبدو إنها تفكر في أمر مهم، ويأتي لها “شفيق” محاولا أن يخفف عنها فيجدها تفكر في المستقبل، ودار بينهما حوار جميل وكاشف يوحي بطبيعة الشخصيتين المختلفة، والمنظور المختلف الذي يرى به كلا منهما العالم.

شفيق: مدام احوالك مش عجباني أبدا
سونيا: بفكر في المستقبل.
شفيق: ده هزار بقى، ده أنتي قاعدة على القمة ومتربعة والكل بيجري علشان يحصلك، وانتي بسم الله ما شاء الله دايما سابقة.
سونيا: الحقيقة حاجة تانية
شفيق: دي الحقيقة اللي شايفاها كل الناس
سونيا: الحقيقة اللي أنا شايفاها حاجة تانية خالص، لما فكرت فيها كويس عرفت قيمتها.. شفيق انا ست مشهورة وعندي فلوس بس، والمستقبل مش فلوس، المستقبل أمان، أنا عمري ما هنسى رميتي في المستشفى اللي ما حد كلف خاطره وجه يزورني، علشان كده أنا لازم اعيد حساباتي من تاني.

تقرر “سونيا” أن تواجه المجتمع الذي يرفض أن تدير راقصة ملجأ للأطفال الأيتام، ممثلا في موظف كبير بوزارة الشئون الاجتماعية الذي قال لمحاميها:”لسه مجاش الزمن اللي الدولة فيه تسمح للراقصات والغواني بتربية الأطفال”. عرضت “سونيا” على الموظف كحل بديل أن يُسجل مشروعها باسم “شفيق سعيد” قائلا: شفيق سعيد استاذ محترم، حسن السير والسلوك، الفيش والتشبيه بتاعه أبيض وما بيشتغلش رقاصة”، كان رد الموظف “عبد البر” “في الحالة دي ممكن ندرس الموضوع الأول”، فباغتته “سونيا” بقولها:”بس بقى اللي انت متعرفوش إن الاستاذ اللي واقف قدامك ده مدمن مخدرات وحاجة تانية ألعن، ومع هذا هتوافق له علشان انتوا كده تموتوا في اللي يغشكوا.. تحبوا المظاهر الكدابة”!

تحاول “سونيا” أن تستغل علاقتها القديمة بالسياسي في تمرير مشروعها لكنها أيضا تصطدم به لخجله من علاقته بها وخوفه من أن يُنشر شيئا عن علاقتهما يؤثر على مسيرته السياسية، بل إنه يعتبر علاقته بها هي “النقطة السودا الوحيدة في حياته”، تعترف هي لـ شفيق بأنها وجدت نفسها منبوذة بحق، شخصا غير مرغوب فيه “دول مش عايزين يعترفوا بيا بني آدمة زي زيهم، حتى لو كنت عاصية من الضالين فربنا فاتح باب الهداية لكن هما مش عايزين..”، ويمكن أن ينطبق هذا الكلام بدرجة ما على شفيق، “ترتر” هو أيضا شخص غير مرغوب فيه في المجتمع، صعب أن يجد من يتفهمه أو يسمح بوجوده يعيش حياته بشكل طبيعي وسط المجموع، ربما يجد فيه البعض نموذجا يدعو للسخرية أو مثيرا للضحك لكن ليس أكثر من ذلك، ولذا لم يكن غريبا أن ينتمي “شفيق ترتر” إلى عالم “سونيا سليم” فلا يمكن مثلا أن تتصوره في عالم السياسي!

هناك ملمحين في هذا الفيلم فيما يتعلق بشخصية “شفيق”، أولا هي إنه لم يهتم الكاتب أن يجعلنا نرى “شفيق ترتر” بشكل أوضح، يعني أن نفهم من هو، تاريخه، كيف تسير حياته بعيدا عن عمله مع “سونيا سليم”، ما هي مشاعره تجاه العالم المحيط به، فالفيلم قدم لنا “شفيق” كشخص بلا تاريخ ولا مستقبل، لا يمكنه التعبير عن نفسه، متماهي لدرجة التوحد مع شخصية “سونيا” لدرجة تجعلهما شخص واحد بوجهين، لكن لم نعرف عنه سوى معلومات بسيطة سلبية في الغالب خاصة إنه “مدمن مخدرات”، فلم يسمح كاتب السيناريو -وحيدحامد- بأكثر من المعلومات التي جاءت عن شفيق على لسان “سونيا” نفسها، لكن لا شيء من ناحيته هو، والحقيقة أن هذه السمة هي مشتركة مع كل الأفلام التي ظهرت بها هذه الشخصية مهما كانت أهميتها في نسيج الفيلم والمساحة التي تحتلها، المؤلفون لم يتعاملوا مع هذه الشخصية إلا على إنها مجرد وسيلة إما للترفيه أو لحفظ التوازن بين عالمين، لكن لم يُنظر إليها كنموذج إنساني، كبشر لم يوجد في الفراغ، بل له ماضي وله مستقبل أيضا.

الملمح الثاني وهو مشترك بين شخصية “شفيق” والنماذج السابقة، وهي أن هذه الشخصية “صبي العالمة” لا توجد إلا في حياة راقصة ليس لديها زوج، ليس في حياتها رجل في علاقة طويلة، وكأن لا يصح أن توجد في حياة المرأة/الراقصة هذه الشخصية في حالة إن كانت متزوجة، على الرغم من إن دور “صبي العالمة” في حياتها مختلف تماما عن دور زوج أو رجل تحبه، لكن يبدو أن صناع الأفلام كان لديهم وجهة نظر تنفي وجود زوج في حياة الراقصة إذا كانت تحتفظ بـ صبي العالمة محيطا بها وجزءا من حاشيتها، النموذج الوحيد الذي خرج عن تلك القاعدة كان فيلم “أرض الخوف” لداود عبد السيد، الذي منح شخصية “صبي العالمة” دورا في تطوير حياة البطل “يحيى أبو دبورة”!

أحمد عبد الحي، فيلم “أرض الخوف” سنة 2000

يعتبر فيلم “أرض الخوف” نقلة ملحوظة في الدور الذي يلعبه “صبي العالمة” في نسيج الفيلم، صحيح إن الفيلم لم يهتم بإضافة أي تاريخ للشخصية، أو توضيح سبب وجودها ضمن حاشية الراقصة “رباب”-تؤدي دورها صفوة، إلا إن في المشهد الوحيد الذي ظهر فيه الممثل أحمد عبد الحي مؤديا دور “صبي العالمة” بسماته المتعارف عليها والتي لم تتغير كثيرا منذ أداء عادل إمام للدور نفسه، الصوت الناعم، الحركات التي تقلد طريقة تحدث النساء/الراقصات، الملابس الغريبة، كان عاملا مؤثرا في الطريق الذي سيسلكه بطل الفيلم بعد ذلك، جعله يفكر من جديد في المرحلة التي وصل إليها لتحقيق المهمة التي أُسندت إليه منذ البداية.

فيلم “أرض الخوف” يتحدث عن زرع ضابط شرطة -يقوم بدوره أحمد زكي- وسط تجار المخدرات، في محاولة لمعرفة أسرار هذا العالم، وعلى مدار عشرين عاما، عمر تجربة “يحيى” يخوض صراعات ويمر بمراحل عديدة حتى يجد نفسه فاقدا لإحساس الخط الفاصل بين الضابط يحيى، وتاجر المخدرات يحي أبو دبورة!

في المشهد الوحيد الذي ظهر فيه “صبي العالمة” اللول، لم يكن يحيي قد انغمس في عالم تجار المخدرات بعد،كان مجرد زوج لراقصة ويدير في الوقت نفسه الكباريه الذى تمتلكه، كان أشبه بالحارس الخاص للراقصة “رباب”، فجاء “صبي العالمة” ليجعله بطريق غير مباشر يبدأ في المهمة التي أوكلت إليه أن يكون تاخر مخدرات بالفعل!

نحن الآن على شاطىء البحر، تجلس “رباب” وبجوارها “يحيي” ويحيط بهما عدد كبير من الأشخاص هم في الغالب حاشية “رباب” ومساعدوها-تذكر التغيير الذي حدث لسونيا كان من خلال حوارها مع ترتر على شاطىء البحر أيضا- فجأة يظهر من بينهم شخص صاحب صوت ناعم ويرتدي ملابس ملونة يتحدث موجها حديثه إلى “رباب”، قائلا: عارفة يا أبلتي الرجل اللي بتعيبي عليه ده كان أيام أبلتي سهير راجل ملو هدومه، كان بينقط كل يوم بـ الـ 100 جنيه، يعني مفيش داعي..”!

من البداية هذا الخطاب غريب تماما من “صبي العالمة” لـ العالمة نفسها، كنا معتادين على شخص يقع حقيقة في مرتبة “الخدام” بالمفهوم القديم، لا يستطيع أن يعارض سيدته، وكل دوره أن يكون منفذا أمينا لأوامرها، وممهدا لظهورها في الأفراح والمناسبات، لكن هنا، شخصية “اللول” اتخذت منحى مغاير تماما، أولا في قراره بأن يتحدث بالأساس، هو الوحيد من بين الجالسين، وثانيا ينتقد سيدته في حديثها الذي لم نسمعه، عن رجل “عابت” عليه شيئا ما، فقرر “اللول” أن يلفت انتباهها إلى خطأ حكمها على الرجل، وتذكيرها بأن هذا الرجل الذي عابت عليه كان مهما في فترة نجوميه سيدته القديمة “سهير”، وكان كريما لدرجة تدفعه إلى إنفاق 100 جنيه كل ليلة لـ “ينقط” الراقصة!

بالطبع استنكرت “رباب” حديث خادمها، وبدت على ملامحها علامات الامتعاض قائلة “أنا يا واد عيبت على حد، أنا بقول عجوز، هو مش عجوز”، لم يصمت “اللول” قرر أن يكمل مشاكسته إلى نهايتها، فقال لـ رباب “عيبتي وكل حاجة بتترد على صاحبها، زي ما أبلتي شوشو كانت بتقول، يعني هتعيبي ع الناس، الناس هتعيب عليكي..”، هنا “اللول” لا ينتقد سيدته فقط، بل يوعظها أيضا من مبدأ أخلاقي تماما، إذا أنتقدت عيوب أحدا وأشارت إليها، فهذا يعني إن الناس ستنتقدها أيضا، وهي ليست خالية من العيوب، كان هذا التصرف مباغتا بالنسبة لـ رباب، وغريبا أن يأتي من شخص مثل “اللول” فغضبت بشدة وقالت له:”عيبة لما تعيب أهلك يا أبن الكلب، هو انا حد بيعيب عليا”!

“رباب” لم تكن متصورة إن هناك من يمكن أن يشير إلى عيوبها، أو يعرف عيوبها من الأساس، وربما كانت متعالية لدرجة جعلتها لا تتصور إن لها عيوبا يمكن أن يشير أحد إليها، فجاء “اللول” ليصدمها بحقيقة لم تكن تعرفها عن نفسها، أن هناك من يعيب عليها فعلا، لكن ما هو العيب؟، “اللول” قرر أن يكمل، المشهد له، وهو من بدأ المشاكسة وعليه أن ينهيها، لكن بدلا من أن يصمت أو يرد بجملة تهدأ من غضب سيدته، قرر أن يواجهها بالحقيقة، قائلا:”مقبولة منك يا أبلتي، وعلى العموم مجتش فيا.. آه بيعيبوا”، لقد آثار فضولها، فقالت له “بيقولوا إيه يا ولا”.. هو: هتزعلي، فما كان منها إلا أن بدأت بضربه وأمسكت بأذنه، لولا أن “يحيي” طلب منها أن تتوقف وسمح لـ اللول أن يقول له الحقيقة، كان “يحيي” يستمع إلى حوارهما منذ البداية، لم يرغب في المشاركة في البداية إلا من باب التسلية وتضييع الوقت، لكن ما حدث بعد ذلك جعله يفكر بجدية أكبر!

قال “اللول” وفي نبرة صوته خليط من الخجل والتحدي وشعور بالانتصار على سيدته:”بيقولوا الواد أبو دبورة عايش في نعيم الست رباب.. عارفين طبعا أنك مدير الكباريه، بس أنتوا اللي سألتوني بيقولوا إيه”!

منذ هذه اللحظة لم يتحدث “اللول” بصفته “صبي العالمة” الشخص التافه في حاشية الراقصة “رباب”، بل شخص على قدر كبير من الأهمية، يعرف ما لا تعرفه سيدته الثرية وزوجها القوي، فتغير مكان “اللول” وأصبح يجلس في المركز، لم يعد على الهامش، بل أتخذ وضعية المسيطر على الجلسة، وأمسك في يده جريدة أستعملها كمروحة وبدأ في توجيه النصائح!

قال “اللول” موجها حديثه إلى “يحيي”:”بيقولوا عليك واد صايع، دخلت الكار، كار القرون”! هنا أدرك “اللول” إنه أصبح يقول كلاما ثقيلا ومن الصعب أن يمر، ومؤكد سيتلقى عقابه على ترديده، فبدأ في أختيار نبرة صوت مغايرة، نبرة متعاطفة وشاعرة بالأسف على ترديد الناس لـ الشائعات، فعاد يرد على “يحيى” عندما أستنكر هذا الكلام “يعني أنت عايز تقول أن أنا…”، قائلا:”لا طبعا يا أستاذ يحيى، بس الناس ملهاش دعوة بالحقيقة، الناس ليها السمعة”!

حتى هذه المرحلة من حوار الثلاثي “اللول” “يحيي” “رباب”، لم نعد نعرف موقف “اللول” الحقيقي، هل هو فعلا يرى مع الناس أن الراقصة وزوجها نموذج مشبوه لرجل وزوجته، أم هو مجرد ناقل لما يردده الناس فيما بينهم، عن الراقصة وزوجها ومدير أعمالها، الضابط السابق، الذي أشاع وسط الناس إنه فاسد، فدخل “كار” مختلف تماما! “اللول” لا يهتم بأن نعرف بماذا يعتقد، المهم ان يؤدي دوره في “تنوير” بطل الفيلم في لحظة مفصلية!

هنا تبدأ “رباب” في التعامل مع “اللول” من المنظور الجديد الذي فرضه الموقف، لكن في الوقت نفسه لم تنسى إنه شخص تافه من حاشيتها فقالت له:”طب إيه الحل يا روح أمك”، نظر إليها “اللول” قائلا :”الحل.. نغير نظرة الناس”!

نجح “اللول” في إثارة فضول الجميع حتى هذه اللحظة، ما زال مستحوذا على الجلسة وآذان الراقصة وزوجها القوي، هذه المرة “يحيى” هو الذي سأل “اللول” عن الكيفية التي يمكن بها تغيير نظرة الناس، بدأ يشعر الأخير بأنه أصبح مهما فعلا، لم يعد مهمشا ولا تافها ولا مصدرا لسخرية الجميع، بل شخص ذو حيثية لديه ما يقوله، أصبح مطلوبا منه أن يوجه النصيحة لسيدته وزوجها، لا يهم إذا عاد بعد ذلك لوضعه القديم بل المهم أن يستنفذ هذه اللحظة ويستغلها حتى النهاية!

نسمعه يقول لـ يحيى:”يعني أنت تشوفلك شغلانة تانية، سيب الفتونة، اصلهم بيقولوا إن عمرك ما ضربت وأنك دايما بتضرب وبس، وإن غيرك يضربك دي مش عايزة فتونة..”

ثم وجه نصيحته إلى رباب:”.. وأنتي تتحجبي زي الموضة اللي طالعة”! تحول “اللول” هنا إلى ناقد اجتماعي، واعي للتطورات التي تحدث في المجتمع وقادرا على الحكم عليها، ونجح في أن يلتقط لسيدته خط جديد يمكن أن تكمل به حياتها، تعتزل الرقص وتتحجب تماشيا مع “الموضة”!

قبل أن تنتهي اللحظة التي شعر فيها “اللول” بأهميته، وقبل أن ينزل من على المسرح ويحتل مكانه القديم، حاول أن يجد إجابة على سؤال “رباب” عندما قالت له بعد أن وزع الأدوار علي هي وزوجها:”طب وأنت يا ابن الحرام هتعمل إيه؟!”

وضع سؤال “رباب” “اللول” في حرج وحيرة، على العكس من الثقة التي كان يتحدث بها من قبل، لم يكن يعرف ماذا سيفعل هو إذا أعتزلت سيدته قائلا:”أنا مش عارف، أصلي أنتِ لو بطلتِ رقص والأستاذ يحيى بطل فتونة (جملة حذفتها الرقابة) الناس برضه هتتكلم عني، بس الواحد يبقى غير الفرقة والطقم وواحدة تانية غير الست رباب تضربه بالشبشب”، ليس لدى “اللول” أي فكرة عن مستقبله ولا يتوقع أن يحدث لحياته تغيير على أي مستوى، هو فقط سينتقل لخدمة راقصة جديدة وينضم لحاشيتها، لكنه في ظل الأحوال سيظل يُضرب “بالشبشب” كرد على ما فعل وما لم يفعل كنموذج مهمش ومنبوذ ولم يجد المجتمع له دورا بعد إلا واحدا من أفراد حاشية الراقصة لتسليتها تارة ولتلقي أوامرها تارة آخرى أو حتى ليكون بمثابة وسيلتها للتنفيس عن غضبها بأن تضربه هو بدلا من ضرب الآخرين الأقوى منه بالطبع!

بعد أن أنتهى “اللول” من نصائحه أدرك “يحيى أبو دبورة” أن عليه أن يغير من مسار حياته لكي يدخل إلى عالم تجار المخدرات، وإن وجوده كزوج لراقصة ومدير أعمالها لن يمنحه جواز مرور للعالم الجديد، فقال لنفسه:”كان اللول على حق، فالدخول إلى العالم السفلي يجب أن يُبنى على سمعة ولم تكن سمعتي حتى هذه اللحظة تؤهلني للدخول إلى الباب الذي أريد أن أدخل منه”!

كانت خطوة شجاعة من داوود عبد السيد أن يجعل لشخصية مثل “اللول” دورا محوريا في مسيرة بطل فيلمه، أن يجعله مبرر درامي ليدفع البطل نحو عالمه الجديد، على الرغم من أن شخصية “اللول” تقع في أقصى الهامش من حياة البطل وحياة زوجته أيضا، مجرد نموذج بشري غريب، تستخدمه الراقصة لتسخر منه وتدفع الملل بعيدا عن حياتها، فجاء سيناريو فيلم “أرض الخوف” ليزيل الغبار من على الشخصية ويدفعها من الهامش إلى المركز ويضع الحكمة على لسانها، ويجعلها في مكان الناصح المسموع الكلمة على الراقصة وزوجها، ثم تساهم الشخصية دون أن تدري في تحويل مسار البطل وتجعله يقتنع بأن اللحظة التي كانت ينتظرها قد حانت، صحيح أن شخصية “اللول” ستعود إلى مكانها القديم، في الهامش، مجال للسخرية، ويُضرب بـ الشبشب إذا استدعى الأمر، لكنه على الأقل استمتع باللحظة حتى النهاية.

حسن الديب في “حلق حوش” 1997 و عمرو عبد العزيز في “أيظن” 2006

أدى الممثل الشاب عمرو عبد العزيز دور صبي العالمة “غزال” في مشهد واحد فقط في الفيلم المتواضع “أيظن”، لكن تصريحاته بعد عرض الفيلم تبدو مثيرة للتساؤلات، قال عبد العزيز لموقع في الفن إنه سعيد بالدور لكنه لن يعود إليه مرة آخرى، وأضاف “دور صبي العالمة في الفيلم شخصية حقيقية موجودة في المجتمع المصري، وأنا قدمتها للجمهور على الشاشة الكبيرة، ومثل هذه الأدوار لا يقبلها الفنان بسهولة”، السؤال هنا، لماذا هذا الدور لا يقبله الفنان بسهولة، وإذا قام بأدائه مرة لا يرغب في إعادتها؟، يمكن أن يؤدي الممثل في حياته العشرات من الأدوار المختلفة، منها القاتل والمغتصب والفاسد والسارق.. الخ، لكن ما الذي يجعله يخجل من أداء هذه الشخصية بالتحديد؟، هل لإنها موصومة، أم إن الرجل يخجل من أداء شخصية إنسان يجمع صفات الجنسين معا، أم أن هناك في المخيلة ربط من الشخصيات من الجنس الثالث وبين المثلية الجنسية، أم لأن المجتمع يرفض أن يرى هؤلاء وينتقد من يقوم بإحياء وجودهم على الشاشة؟ هناك العديد من الاحتمالات، ويمكن أن يضاف إلى كل هذه الاحتمالات أن المجتمع يوجه سهام نقده لمن يعتقد في وجود هؤلاء بيننا، ويرفض الاعتراف إنهم موجودين بالفعل، فينتقد الممثل، فيشعر الممثل بدوره بالذنب والخجل على أداء الشخصية، ويعتذر للمجتمع، ويتعهد بألا يؤديها من جديد!

أنا لست متأكدة أن هذه الشخصية موجودة في المجتمع بالصورة التي قدمتها السينما، خاصة وأن موضوع اضطراب الهوية الجنسية أكثر تعقيدا من أن يكون هناك رجلا يرتدي ويتحدث مثل النساء/ الراقصات الشعبيات منهن، بالإضافة إلى أنه ليس لدينا مرجع يشرح لنا كيف كان هذا الشخص في الحقيقة، الذي كان يصاحب الراقصة أثناء عرضها على المسرح، كيف كان يتحدث، كيف كان يعيش، وما هي حدود دوره في حياة الراقصة، لقد مدت السينما دور هذه الشخصية لتشمل الحياة داخل بيوت البغاء، وأضفت على الشخصية سمات عديدة وسلوكيات تجعلها مثيرة للاشمئزاز، لكن من الذي يستطيع أن يقول أن هذه الشخصية موجودة بهذا الشكل في المجتمع، وأن السينما نقلتها-بشكل أمين- إلى الشاشة الكبيرة، دون أن يتدخل خيال المؤلفين ورغبتهم في إضفاء أجواء مثيرة على أفلامهم من خلال إضافة المزيد من التفاصيل على شخصية “صبي العالمة”!

أدى الممثل “عمرو عبد العزيز” في فيلم “أيظن” دور “صبي عالمة” يرتدي جلباب أبيض، ويبدو كشخص مستعد للرقص في أي لحظة، ويقول “على فكرة يا روحي إحنا بيت دعارة محترم”، و “أنا لابسة بدلة رقص وفي بيت دعارة”، أي من هذا يبدو واقعيا، الجلباب الأبيض، أم تلك الجمل التي وضعت على لسان الشخصية، في رأيي كل هذه اكلشيهات تم استيرادها من الأفلام القديمة دون تدقيق، فشخصية “صبي العالمة” في فيلم سيد درويش كانت ترتدي جلبابا لإنه كان زي الطبقة الشعبية في مصر، فالبدلة أو القميص والبنطلون زي طبقة الأفندية وموظفي الحكومة، وبالتأكيد إن كان لهذه الشخصية وجود الآن فسترتدي مثل الجميع ولن يستطيع أحد تمييزها من الزي، بالإضافة إلى إن عمل الشخصية في “بيت للدعارة” لا يجعلها تقول “إحنا بيت دعارة محترم” أو ترقص وهي تقول “أنا لابسة بدلة رقص وفي بيت دعارة”، ربما هناك شخصيات وجدت نفسها تعمل هناك، في بيوت الدعارة، أو إنها تربت ببساطة في هذه البيوت، فأصبحت جزءا منها، وأصبحت تؤدي عملا بداخلها، لكن ليس بالصورة التي تصر السينما على تقديمها لنا وتدعي إنها تنقل الحقيقة!

في فيلم “حلق حوش”، إنتاج 1997، إخراج محمد عبد العزيز، أدى الممثل الراحل حسن الديب دور “خيشة” صبي العالمة “بخاطرها”، التي دخلت إلى البنك ولم تخرج بسبب احتجازها مع الآخرين كرهائن من أجل الحصول على خمسة مليون جنيه للخاطفين. وقف “خيشة” خارج البنك يقول:”أبلتي قتلوها الإرهابيين ودي ولية، ولية نعمتنا”.. هل تلاحظ شيئا، هذه الجملة البسيطة التي قالها “خيشة” تعبيرا عن تضامنه مع الراقصة أحتوت على سر العلاقة بين الراقصة وصبيها، الولاء الذي ينبع أساسا من أن هذه الراقصة هي التي يأتي عن طريقها رزقه ويستمد منها وجوده، فإذا فُقدت أو اعتزلت سيكون هو قد ضاع، وفقد مصدر رزقه ويصبح مهدد بالحرمان من المأوى ومن القبول أيضا، فهذا ربما يعطي تفسيرا لسؤال بسيط: لماذا لا يبدو لصبي العالمة وجود بعيدا عن حياة الراقصة، لماذا يتماهي معها للدرجة التي تجعله ملاصقا لها كظلها؟، خاصة وأن هذه الشخصية، بسماتها وتركيبتها المعقدة لا يتاح لها الفرصة غالبا لكي يكون لها نفس مسار الشخص العادي، تواجه مشكلة في التعليم وفي العمل، وفي القبول من العائلة الأصلية، فيكون لها مسار مضطرب، خاصة إذا كنا نتحدث عن الطبقات الدنيا من المجتمع، فتجد الملاذ في بيوت الراقصات، وهن بدورهن منبوذات على الرغم من رواج عملهن، فيصبح بيت الراقصة هو بيت المنبوذين تتخذ منهم مساعدين لها و بالتدريج يصبحوا حاشيتها والحماية التي تختبئ خلفها!

تبقى سؤال هنا، من أين استقى الممثلون صورة “صبي العالمة” التي ظهرت في السينما؟

يمكن أن نتأمل هذا النموذج في البداية، كريستين مولدوفان شخص ثنائي الجنس، عمره 28 عاما، لا ذكر ولا أنثى، عند ولادته لم يكن جنسه واضحا، لذا قام الأطباء بتكييف جنسه الخارجي ليكون أنثى، وقال الأطباء لوالديه أن يربياه كفتاة، لكنه يشعر أنه رجل، يريد أن يُنظر إليه كرجل، لذا يتدرب يوميا في صالة للألعاب الرياضية.. تعرض كريستين في الصغر للسخرية والتنمر والضرب أيضا، مما جعله ينظر إلى نفسه بدونية. يقول كريستين “لا وجود لنا بالنسبة للمجتمع، والكثيرون لا يعرفون عن هذا الأمر أيضا”.. نحن هنا نتحدث عن شاب في ألمانيا، لك أن تتصور ما يمكن أن يتعرض له شخص مثله في مجتمعات آخرى، لكن ما أريد أن أناقشه هنا هو الصورة التي ظهر عليها “كريستين” كشحص ثنائي الجنس، لا يوجد تشابه على الإطلاق بينه وبين النموذج الذي تقدمه السينما للشخص ثنائي الجنس، لا يمكن أن تتعرف من تلقاء نفسك على حقيقة “كريستين” إنه يعاني من أزمة هوية، صحيح ربما يرجع هذا إلى بذله مجهودا مضنيا في صالة الألعاب الرياضية ليبدو كرجل تقليدي، إلا أن النموذج نفسه ليس منفرا مثلما ظهر في أفلام السينما المصرية، ويظل السؤال عالقا، ما هي مصادر الممثلين لتجسيد سمات هذه الشخصية؟ لم يفصح أي ممثل منهم، بمن فيهم عادل إمام، عن مصادره لتجسيدها، لكنهم اكتفوا بالندم والتأكيد على إنها شخصية موجودة في المجتمع، لكن أين، ومن أين اكتسبت سماتها الشخصية وملامحها الخاصة، الجلباب الأبيض، الوجه المليء بالمساحيق، الصوت الناعم، والحركات الأنثوية ونحن لا نستطيع أن نجزم أن هي نفسها سمات الشخص الذي كان يصاحب الراقصة في عروضها أمام الجمهور، ليس لدينا مرجعا داعما يوضح لنا الصورة التي كان عليها هذا الشخص في الماضي.

تقديري أن الصورة التي ظهر عليها “صبي العالمة” في السينما هي أقرب إلى التصور التخيلي عن الشخص ثنائي الجنس، والممثلين الذين أدوا هذا الدور قد أضافوا لمسات خاصة بما يتناسب مع فهمهم هم لشكل الشخصية وطريقة تعاملها، كشخص يعاني ازمة هوية، يصاحب راقصة، ويعتبر بمثابة خادمها، أو كشخص عاش حياته في بيتا للبغاء وسط عاملات الجنس وزبائن الدار، وربما يكون قد ولد بهذا الدار كواحد من أبناء العاملات فيه، واكتسب سلوكه من تقليده للراقصات وعاملات الجنس وخاصة المنتميات إلى الطبقات الدنيا.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: