عندما يبدأ شريط فيلم “قطة على نار” في الدوران، نلمح شابا يجلس في ظلام مدرجات إستاد القاهرة الفارغ، ينظر إلى المساحة الخضراء ويحمل في يديه زجاجة، يشرب منها على مهل، ثم يمر عليه رجلا يلقي عليه التحية لم يبالِ بالرد عليها، لكننا سنعرف إن هذا الشاب هو “الكابتن أمين”، لاعب ينتمي إلى المستطيل الأخضر، لكن شيئا ما قد أبعده عنه، وأجبره على الجلوس على مدرجات خاوية في ليلة من ليالِ القاهرة!
“أمين” الصامت، سيقذف غاضبا بالزجاجة إلى قلب الملعب، لنجد أنفسنا في لمح البصر وقد انتقلنا من ليل القاهرة إلى نهارها، ومن الملعب الفارغ إلى مدرجات ممتلئة عن أخرها، جماهير تهتف، و”أمين” سعيدا يرتدي فانلة النادي الأهلي، ويجري في الملعب محتفلا بهدف قد أحرزه للتو، نحن لم نذهب للمستقبل، بهذا المشهد نحن قد عدنا إلى الماضي، إلى ماضي “أمين” عندما كان رجلا سعيدا ومشهورا ولديه عمل ولم يكن يعاقر الخمر بعد، لكن ما هي القصة، ما الذي حدث بين المشهدين!

يروي فيلم “قطة على نار” وهو قصة مقتبسة من مسرحية لـ تينسي ويليامز بعنوان “قطة فوق سطح صفيح ساخن”، قصة صعود امرأة فقيرة إلى الطبقة العليا بعد أن تزوجت من رجل مشهور وابن لثري معروف، لكنها تعاني في مرحلة ما من علاقتهما بسبب انتحار صديق الزوج، واعتقاد الأخير إنها هي من تسبب في انتحاره، يترك الزوج وظيفته كصحفي، تُكسر ساقه وربما لن يستطيع لعب كرة القدم من جديد، أدمن شرب الخمور، وزهد في علاقته بزوجته، يجلس متقوقعا في غرفته، اما هي فتدور حوله كـ قطة على نار، تحاول أن تجذب انتباه تارة، وأن تدفعه للدفاع عن ميراثه من أبيه الذي يحتضر تارة أخرى، وتفشل في الحالتين!

يلعب المكان دورا رئيسيا في نسيج فيلم “قطة على نار”، الذي أخرجه سمير سيف عام 1977، في بيان التناقض الذي صاحب علاقة “أمين” بزوجته “جمالات” قبل أن تصبح “جيجي” وبعدها، وفي علاقته بـ صديقه “عزت” قبل أن ينتحر، لكن كيف نجح سمير سيف في استغلال المكان في نسج العلاقات بين شخوص الفيلم، وما علاقة ذلك بالقصة ومغزاها في النهاية.. لنرى!
عندما كان “أمين” يحتفل بإحرازه هدفا في شباك الخصم، ويتلقى التهنئة من زملائه، نرى شابا ذو ملامح مميزة، يرتدي اللونين الأحمر والأزرق، يجري في إتجاه المساحة الخضراء، يخترق الملعب، ويحتضن “امين”، لكن الكاميرا تركز على حركة إيدي “عزت” على ظهر “أمين”، كانت تريد أن تقول شيئا، في الثواني التي سبقت إشارة الحكم لهذه الصديق بالخروج فورا من أرضية الملعب، لكن لا يمكن فهم هذا المشهد إلا بعد أن نرى “أمين” وهو يجلس مع زوجته “جيجي” في غرفة نومهما الخاصة، تحاول هي أن تجذب انتباهه، ترتدي ملابس مثيرة، تحاول أن تقول له إنها هنا، لكنه لا ينظر إليها حتى، يحتقرها ربما بسبب ما تفعله، ثم يستخدم عصاه لكي يغطي جسدها بغطاء السرير القطني!

المفارقة، أن ملعب لكرة القدم، في وجود الآلاف من المتفرجين قد اتسع لثواني للحظة عناق بين رجلين، لا نعرف على وجه الدقة-حتى الآن- ما حقيقة علاقة كلا منهما بالآخر، لكن غرفة خاصة لزوجين قد خلت من لحظات المودة، وسادها التباعد والنفور، كنا نرى الزوجين كما لو كان يفصل بينهما جدارا، وهو الحقيقة كان جذع شجرة قد وُضع عمدا في منتصف الغرفة، لكي يفصل أمين في جلسته عن “جيجي” على سريرها.. الغرفة الخاصة لم تعد تتسع لعلاقة حب بين رجل وامرأة، لكن الملعب كان قاربا قادرا على حمل رجلين في لحظة عناق، نحن والكاميرا نعرف إنها لم تكن بريئة تماما، على الأقل من ناحية الصديق!
لا يسير بنا فيلم “قطة على نار” في سرد خطي للأحداث، بل ينتقل بنا بين الحاضر والماضي، نجلس مع “جيجي” و “أمين” وهما يتشاجران في غرفتهما، ثم يعود بنا الفيلم إلى “أمين” و “جمالات” وهما يتبادلان الحب عند الهرم وأمام النيل ويرقصان في ديسكو وسط مجموعة من شباب الطبقة البرجوازية، الذين لا يعرفون أن هذه الشابة الجميلة، التي ترقص ببراعة على أنغام غربية، صاحبة المظهر المتواضع، قد أيقظت كل مهاراتها وذكائها من أجل أن تجد لها مكانا في عالم كابتن “أمين عبد الجبار” ابن المليونير، لقد كانت تخوض حربها الخاصة من أجل الخروج من حارة ضيقة في شارع من شوارع الإسكندرية لـ فيلا واسعة تحيط بها حديقة والخدم يدورون حولها في انتظار أوامرها!

كانت “جيجي” أو “جمالات” ناجحة في رسم صورة لها تعكس وعيها بالمجال الذي تدور فيه، عند انتقالها من غرفة لـ غرفة في المنزل نفسه، فكنا نرى فرقا بين تلك المراة الملتاعة التي تجلس على سريرها تبكي عزوف زوجها وقسوته، وتنتحب عندما تتذكر ماضيها كشابة فقيرة تؤخر وجبة غدائها حتى تأكل وجبة واحدة في اليوم، بالمقارنة بالمرأة التي أصبحت تؤخر غدائها أيضا لكن بهدف أخر، الريجيم، وبين تلك المرأة مرفوعة الرأس كثيرة الضحك، الأنيقة، التي تمشي في المنزل وسط أهل زوجها على أطراف أصابعها ليس خوفا منهم، بل زهوا في نفسها، كامرأة جميلة وذكية وشابة، وزوجة لرجل وسيم وناجح وابنا لرجل مليونير، ترى الدنيا في قبضتها، وتحاول أن تحافظ على ثقتها في نفسها أمام الجميع، خاصة زوجة شقيق “أمين”، أم الأطفال الخمسة، والتي تطمع أن تحصل على النصيب الأكبر من ثروة الجد المحتضر، فقط لإنها أما للأحفاد، في حين أن “جيجي” لم تستطع حتى الآن أن تأتي بحفيد يحمل اسم الجد!
هناك ملمح آخر في اختيار الأماكن في هذا الفيلم، لقد منح سمير سيف العاشقين مساحة للحب في نهارات القاهرة والإسكندرية، العاشقان الرجل والمرأة، قد جعلهما يسيران في مجال خالِ وآمن تماما، وسط الأهرامات، يقبلان بعضهما البعض، ويلتقطان الصور دون أن تأتي شرطة الآداب لتحيط بهما-مثلما نرى في فيلم الحب فوق هضبة الهرم- أراد لنا الفيلم أن نرى كيف نمت قصة الحب بين الرجل والمرأة، دون عواصف في البدايات؛ لأن العواصف كانت قادمة في الطريق، ولأنه ليس صلب الرواية أن العاشقين يواجهان مشكلة في إيجاد مكانا للحب، بل الأزمة كلها أن الأماكن التي ضمت الزوجين فيما بعد لم تعد تتسع للحب بينهما، بسبب التوترات التي شابت علاقتهما بمرور الزمن!

الملاحظة هنا قبل أن نمضي، إن سمير سيف لم ينجح في خداعنا، اختياره أماكن خالية وآمنة لـ العاشقين “أمين” و “جمالات”، وجعلهما يعبران عن مشاعرهما بسهولة تحت ضوء الشمس، بين صخور أهرامات الجيزة، ليست صورة حقيقية، بل صورة منسوخة من خيال “سيف”.. عندما يريد رجل أن يعبر عن مشاعره لامرأة في مصر عليه أن يجد مكانا خاليا، مظلما، لا يمر فيه البشر، فلا يمكنه أن يحتضنها وسط الناس، لا يمكن أن يقبلها وسط الناس-هناك الآن من ينتزعون هذا الحق في شوارع القاهرة لكنهم ليسوا كُثر.. الناس هنا لا تحب التعبير عن الحب، الناس تبغض الحب علنا، والشرطة تراه تعديا على المجال العام، اختراقا للقانون، والناس تراه اختراقا لعادات وتقاليد بلد شرقي قديم.. لذا يمكن تصور أي مأزق يواجه عاشقان رجل وامرأة في شوارع مصر، وأي أزمة يمكن أن تواجه رجلين!
لقد أوهمنا الفيلم حتى مشهد النهاية بأن بين “أمين” و “عزت” علاقة مثلية، لكن في اللحظة التي خرجت فيها “جيجي” إلى الشرفة بحثا عن الهواء، ورأت “عزت” وسط الظلام يتحدث إلى رجل ويحاول إقناعه بالصعود إلى غرفته، قد أدركنا أن “عزت” مثليا لكن “أمين” صديقا فقط، وعندما ذهب “أمين” بحيلة من زوجته إلى غرفة “عزت” ورآه مع رجل، قد امتلىء الفراغ في قصة الرجلين.. “أمين” لم يكن يعرف بـ مثلية صديقه الوحيد، وبسبب غيرة “جيجي” دفعت زوجها لكي يذهب ليرى صديقه في غرفته، وفي اليوم التالي وُجد “عزت” ميتا/منتحرا في حمام غرفة نومه، بعد أن قطع شرايين يديه، خجلا من صديقه بعد أن أكتشف حقيقة ميوله.. هذا الحادث، وشعور “أمين” بأن زوجته تقف خلفه، قد حطم علاقة الزوجين، ودفع بـ “أمين” إلى الظل عاطلا مكسور الساقين و مخمورا ويائسا، لم يعد ينتمي إلى ملعب ممتلىء عن آخره بالجمهور، بل جزءا من غرفة ضيقة يفصل بينه وبين زوجته جذع شجرة!

هناك مشهدين يمكن أن نقف عند اختيار المكان لاحتواء الشخصيات والحوار، المشهد الأول: عندما قررت العائلة الكبيرة أن يذهبوا إلى “العزبة” لنزهة قصيرة، حيث الجميع سيكون في مواجهة الجميع، لكن على الطريق، كان هناك مواجهات آخرى، الأهم من بينها هي المواجهة بين “جيجي” و”أمين”، حيث أختيار طريق مفتوح لكي يدور حوار بين الزوجين عن “العلاقات المفتوحة”، الزوجة تصارح زوجها بأن هناك رجال آخرين يسعون إليها، لكن “أمين” يستمر في تجريحها، متماديا في انتقامه منها، فيقول لها ببرود: أنا مش ناوي أطلقك مهما تعملي، حتى لو خونتيني، ريحي ضميرك من ناحيتي.. صاحبي على كيفك مش هركز ومش هزعل.. حتى ده يبقى أحسن، بدل ما أنتي عاملة زي قطة على نار.. نقي اللي يعجبك ومش هيجرى لك حاجة!، لكن “جمالات” ما زالت متمسكة بـ العالم الذي منحها اسم “جيجي”، لذا وجدت نفسها تقول لـ أمين إنها ما زالت تحبه ولن تبحث عن غيره!

أما المشهد الثاني، هو مشهد النهاية، في حديقة المنزل، وسط الزهور والعشب الأخضر، تحت ضوء الشمس، جلس الزوجان يحتضنان بعضهما البعض، “أمين” و “جيجي” كرمز للتعاسة في وسط لوحة مبهرة من جمال الطبيعة، يحاولان إعادة أيام حبهما القديمة.. “أمين” أصبح مقتنعا بأنه هو من تسبب في انتحار صديقه وليست “جمالات”، لذا تغيرت مشاعره ناحيتها في لحظة، أصبح قادرا على النظر إليها-مثلما كان في الماضي- استعاد الزوجين شغفهما ببعضهما البعض، مرة ثانية، نهارا، في مكان مفتوح، خالي من البشر.. في “قطة على نار” لـ سمير سيف، المساحات المفتوحة/ نهارا، هي مجالات رحبة وآمنة لـ الحب بين رجل وامرأة، والغرف المغلقة هي مكان المشاحنات والمواجهات العنيفة، أما “الأماكن المظلمة” هي الوحيدة القادرة على استيعاب علاقات الحب بين المثليين..