ترى الناقدة ناهد صلاح في كتابها “الفتوة في السينما المصرية” إن السينما عبرت عن نموذج الفتوة كبطل شعبي، يناصر المظلومين وينفذ قوانين العدالة بطريقته، في صورة عكست قيم الشرف والنبل والقوة، أما المرأة في أفلام الفتوات كانت صورتها تدور في الإطار النمطي والمكرر للمرأة في السينما المصرية بشكل عام، على الرغم من إن بعض هذه النماذج كانت تبدو ظاهريا كفاعلة ومحركة للأحداث، لكن ما لم تذكره ناهد صلاح في كتابها أن المرأة الفتوة أو “الفتواية” كان لها حضورا تاريخيا بارزا كما الفتوات الرجال، وأن الأحياء الشعبية المصرية قد أفرزت فتواتها رجالا ونساء بناء على معايير الاستحقاق نفسها، في حين إن السينما المصرية المتفردة عن سينما العالم بـ”أفلام الفتوات” قد تجاهلت هذه الحقيقة التاريخية ومنحت النساء أدوارا في ظل الفتوة وخلفه!
الفتواية “عزيزة الفحلة” بطلة طفولة محمود المليجي
على الرغم من المبالغات التي تشوب السردية المتوفرة عن عالم الفتوات بشكل عام، إلا إن الفنان محمود المليجي، في لقاء مع طارق حبيب فى برنامج “أوتوجراف”، قد تحدث بصورة جميلة ومعبرة عن شخصية من الشخصيات العديدة التي ألهمته عندما اشتغل بالتمثيل، وكانت بطلة طفولته الفتواية “عزيزة الفحلة” فتوة حي المغربلين، فقال: “أستاذي كانوا الناس، أنا اتولدت في حي المغربلين، حي بلدي، كنتُ بشوف فيه نماذج يعني لسه عالقة في ذهني لحد دلوقتي (..) يعني كان فيه مثلا، عصر الفتونة، عصر الفتونة ده مكنش بلطجة، لأ، بيبقى في الحي بتاعه يدافع عن الضعيف، ففي المغربلين كان فيه عزيزة الفحلة (يضحك) هي مكنتش فحلة ولا حاجة، إنما جوزها كان لقبه كده، لقبه الفحل، دي ست كان طولها يطلع بتاع 190 سم، وكانت رفيعة، دي كانت تتخانق، فتواية، وكانت تحمي الضعيف، كان عندي 9 سنين، ولما كنتُ أعرف إنها رايحة تتخانق في حتة كان لازم أطلع، أنا عارف إني هضرب في البيت، إنما لازم أطلع وأتفرج ع الخناقة وهى بتتخانق، كانت زي فارس من فرسان القرون الوسطى، وهو بيلعب سيف مثلا، كانت حاجة جميلة”.
تناول كتاب “تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية“، بعضا من سيرة عزيزة الفحلة، خاصة الموقف الذي أُشتهرت به، إنها مَن أوقفت ركب “الخديوي عباس حلمي الثاني”، لتقدم إليه التماسا: “ظلمها مأمور القسم.. فتطلعت إلى (الحكمدار) ثم (المحافظ) فلم يفعلا شيئا، فلم تجد طريقة غير أن تتصدى لركب الخديوي.. وتخرج عليه وهي تصيح قائلة: مظلومة يا أفندينا.. مظلومة يا أفندينا” ويعلق المؤلف سيد صديق عبد الفتاح بأن الخديوي استجاب لها وأمر بحل مشكلة فتواية المغربلين “حتى لا تتعرض له برجالها في الطريق مرة أخرى”.
فيما بعد، تحدث عنها أحفادها وبعضا من سكان حيها الذين شاهدوها وهم أطفال صغار، إنها دخلت عالم الفتوات بعد زواجها الثاني من فتوة حي المغربلين، وكان يمتلك محلا لبيع الحبوب والغلال، وقال محمد السمري الفحل، حفيد عزيزة لموقع اليوم السابع إن جدته كانت مشهورة بالقوة، وترد للفقير والضعيف حقه، كما كانت تجمع الشباب يوميا بالحارة كى تعلمهم رفع الأثقال، ومنهم مختار حسين الذى حصل على بطولة العالم، مضيفًا: “أى فتوة يعدى بزفة كان لازم يعطى التحية أولا لعزيرة الفحلة قبل دخول الزفة”.
ووصفها واحد من معاصريها إنها كانت “مكافحة للاستعمار”، أقامت أكمنة للجنود الإنجليز عندما وجدتهم يتحرشون بالنساء في الحمامات العامة، وكانت تبرحهم ضربا هي ورجالها. وأشار آخر إلى أنها لم تكن تبدأ بالمعارك إلا بعد إنتهاء المفاوضات والطرق السلمية لحل المشاكل.
كما أشار إليها صلاح عيسى في كتابه “رجال ريا وسكينة“، في معرض حديثه عن تاريخ جماعات الفتوات في مصر، وقال عنها: “.. ولم يكن نادرا أن تكون بين الفتوات امرأة، إذا كانت “عزيزة الفحلة” هي “فتوة المغربلين” وفضلا عن أن الصفة التي تلحق باسمها تدل على أنها امرأة ذات قوة بدنية خارقة، فقد كانت تستعين في حكم منطقتها بابنها “محمد” الذي كان يتقاسمها النفوذ”.
الشاعرة في الجمالية وأم شكرية في بورسعيد
عزيزة الفحلة ليست “الفتواية” الوحيدة بل إن التاريخ الاجتماعي لمصر، في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين سرد بعضا من سير نساء أخريات، مارسن الفتونة بمفردهن أو بمشاركة أزواجهن أو توارثن هذه المهنة عن الزوج، منهن فتواية عرفت باسم “الشاعرة”، أشار إليها مكاوي سعيد في كتابه “القاهرة وما فيها”، نقل قصتها بدوره عن كتاب “من الموسكي إلى الحسينية” لـ جاذبية صدقي: “سألت جاذبية صدقي مأمور حي الجمالية العميد سيد النواوي، أليس بين “البلطجية” امرأة؟ أجابها؟ ليس الآن، ولكن فيما مضى كانت هناك “بلطجية” قوية وقادرة ومستقوية اسمها “الشاعرة”! كانت تركب عربة تجرها الخيول المطهمة، وترتدي كتلًا متكتلة من الذهب، ولها جيش من الفتوات يأتمرون بأمرها!”
كما تذكرت جاذبية في الكتاب نفسه، قصة فتواية اسمها “أم شكرية” من بورسعيد، كان يتحدث عنها الناس بوصفها “أطول من أطول رجل، ضخمة، وقوتها هائلة، وسمنتها زائدة، كفها خف فيل، وصوتها قصف رعد، ترتدي جلبابا بلديا مشقوق الصدر كالرجال..”، وحكت نساء من جيرانها عن قصة احترافها للفتونة قائلات: “بدأت حياة الفتونة بالوقوف في صف جارتها وكسبت المعركة، ثم جيرانها، وكانت تكسب دائما، وتخرج الغريمة مهزومة، مضروبة، مهشمة، قد كُسرت لها ذراع أو شُقت لها جبهة، حتى ذاع صيتها في بورسعيد بأكملها، وصرن يلذن بها لاستخلاص حق ضائع من زوج مساكش، أو صاحبة بيت عنيدة، أو جارة مؤذية” وأضافن إن أجر “أم شكرية” في المعارك قفص دجاج أو زوجين من البط المسمن، أو كبشا كبيرا إذا كانت المشاجرة ستنتهي بسجن “أم شكرية” بضعة أشهر “وكان على صاحبة المشاجرة التي بسببها سُجنت “أم شكرية” أن تستقبلها عند خروجها من السجن بالطبل والمزمار، وتقيم ليلة لله تنحر فيها ذبيحة، وتمد مائدة حافلة تتوسطها “أم شكرية” كالعروس! والويل كل الويل لمن تطنش؛ ولم يحدث ذلك قط، فلم يكن لدى أي واحدة الجرأة على تجربة تحدي أم شكرية”.
جليلة فتواية الجيزة التي كرهت الفتونة
في نهاية خمسينيات القرن العشرين كانت جليلة فتواية الجيزة قد تركت عالم الفتونة وتفرغت لمقهى تديره، ويشير كتاب “تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية”، إن كثير من الغرباء كانوا يأتون إلى المقهى لرؤية صاحبته فقط؛ بسبب الشهرة التي كانت تتمتع بها، وعندما يسألونها عن الفترة التي كانت تمارس فيها مهنتها الأصلية كانت تقول: “خلاص.. خلي الواحد يعيش كده أحسن.. أحسن من الضرب والقرف اللي جاب لنا المصايب”، ويقف خلف اعتزالها حادثة راح ضحيتها شقيقها ودخل أبناؤها الثلاثة السجن بعد إدانتهم بقتله في مشاجرة، وهي جليلة نفسها من شهدت ضد أبنائها وساعدها زوجها “عباس”، وكان فتوة أيضا.
يمتدح الكتاب جهود “جليلة” في الحد من نسبة الطلاق في حارتها، فنسبة الطلاق في حارتها “لا تحدث إلا في النادر”؛ لأنها كانت تذهب إلى “أي زوج يتشاجر مع زوجته في الحال، وكانت تعرف الظالم، فتتصدى له وتضربه (علقة) يحرّم بعدها العودة إلى الخطأ الذي ارتكبه”. ويضيف الكتاب إلى أن أهل حيها “من النادر أن تصل مشاجراتهم إلى البوليس؛ لأنها دائما تنهيها قبل تدخله، وتعاقب الظالم”!.
هنا يجب الوضع في الاعتبار، إنه على الرغم من أن رواة القصص ينسبون البطولات الشعبية إلى الفتوة رجلا أو امرأة إلا إن الفتوة لا يعمل بمفرده، بل من خلال ما يمكن تسميته “مؤسسة الحكم” داخل الحي أو الحارة، فصلاح عيسى في كتابه “رجال ريا وسكينة” يقول إن من الناحية التنظيمية “.. على أساس هرمي يقف الفتوة على قمته، باعتباره حاكما فردا، وصاحب سلطة مطلقة، لا يرد له أحدا كلمة، أو يعارض له رأي؛ لأن أحدا لم ينتخبه أو يختره لدوره، فهو قد ورث سلطته، أو انتزعها بقوته الجسدية وشجاعته، ومخاطرته بحياته (..) يلي الفتوة، الطبقة الأولى من أعوانه، وهي تضم “الصبوات” وهم الذين يشتركون معه في التخطيط للمعارك، ويقودون الفصائل أثناء الهجوم، فهي بمثابة هيئة أركان الحرب في الجيوش المعاصر، أما الطبقة الثانية فتضم “المجدع” وهم الجنود الذين يشتركون في المعارك، ويخوضونها بالنبابيت الخشبية، أو بالسلاح الأبيض، وكان يُطلق على هاتين الطبقتين صفة “المشاديد” أي أنصار الفتوة، الذين يؤازرونه، ويتشددون له، أما الطبقة الثالثة، فكانت تضم “المقاطيع” الذين يقومون بالأعمال الخدمية، في بلاط الفتوة ومشاديده، فيعدون لهم مجالس شرب الخمر، أو تدخين المخدرات، ويضفون على سهرات البلاط جوًا من الفكاهة بما يلقونه من نكت ونوادر وحكايات وقفشات”.
بما يعني أن المرأة الفتوة كما الرجل كان لها هذا البناء الهرمي الذي تقف على قمته، وتكتسب سلطتها بين أهل حيها ورجالها على أساس شعور الجميع باستحقاقها لهذه المكانة طالما لم ينتصر عليها فتوة/فتواية أخرى في معركة حاسمة، وإنها كما الفتوة الرجل كانت قادرة على إدارة هذا العالم بمفردها كما كانت الشاعرة وأم شكرية أو بمشاركة ابن أو زوج، في حالة عزيزة الفحلة وجليلة، لكن السينما المصرية التي استلهمت أدب نجيب محفوظ في معظم القصص التي أُنتجت عن عالم الفتوات، لم تمنح المرأة أي دور خارج إطار “حريم الفتوة”، حتى إن نادية الجندي عندما شرعت في أداء دور البطولة في فيلم “شهد الملكة” صنعت القصة نفسها التي تدور فيها كل أفلامها، المرأة رائعة الجمال التي يتهافت عليها كل رجال الحي، وتنتقل من رجل لأخر حتى تلقى حتفها في النهاية، ولم تجذبها قصص المراة الفتوة التي تناصر الضعيف وتقيم العدل!
نساء صنعن سعادة الفتوة وشقائه
يجب أن أصارحك، طالما قد وصلت إلى هذا الجزء من النص، إن كل ما سبق كان محاولة لوضعك في صورة بانورامية عامة عن وضع مجتمعي منح النساء مكانة مساوية للرجال في عالم شديد القسوة مثل عالم الفتوات، لكن السينما وعلى نحو غامض قد شرعت تصنع قصصا تعيد العزف المرة تلو المرة على نغمات المرأة البريئة في مقابل المرأة المغوية في دنيا الفتوة، وتشير الناقدة ناهد صلاح في كتابها “الفتوة في السينما المصرية” على أهمية التركيز على هذا النوع من الأفلام؛ لأنها “ملمح مميز تفردت به السينما المصرية دون سواها بحيث يمكن أن تقول باطمئنان تام أن هذا النوع لم تقدمه سينما أخرى في أي مكان بالعالم. فقد صارت أفلام الفتوات على قلتها بالنسبة للميراث الطويل للسينما جزءا أصيلا من واقعها وتاريخها لا يجوز أن تقدمه سينما أخرى”.
ما يلفت الانتباه أيضا في كل أفلام الفتوات في السينما المصرية إن الصراع ينمو حتى يصبح صراعا على امرأة بالأساس، وإن الشقاء والسعادة مرتبطة بامتلاكها أو الهروب منها، ففي فيلم “المطارد”، إنتاج 1985 وإخراج سمير سيف، والمأخوذ عن إحدى حكايات ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، سماحة الناجي (نور الشريف) يصبح أسيرا للهرب الدائم “وأول الخيط كان امرأة.. حبيبته التي قتلها الفتوة (الفللي) وينجح في ألصاق التهمة بـ سماحة الذي ينجح أهله في تهريبه للصعيد، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بولاق تحت اسم مستعار “بدر الصعيدي” ليدخل في صراع مع المخبر حلمي، والصراع هذه المرة أيضا تفجره امرأة هي محاسن التي جسدتها سهير رمزي التي تتزوج من سماحة”، كما تقول ناهد صلاح في فصل “المرأة والفتوة”.
على الضفة الأخرى، تقف سنية السمري (صفية العمري) في فيلم “الحرافيش” إخراج حسام الدين مصطفى، تلك الثرية الحسناء التي “أوقعت فتوة الحي خضر الناجي (محمود ياسين) في هواها، ولم تستسلم له كامرأة ضعيفة، بل مارست الفنون الانثوية التي ورثها صنف من النساء عن راقصة الإغواء الأسطورية سالومي، ونجحت في أن تجعل من الرجل الذي يهابه الجميع مجرد طفل صغير في حضرتها، فهو فتوة فقط أمام المجتمع، أما خلف الأبواب فهو مجرد رجل ضعيف..”، فينتقل إلى حياة القصور، كتاجر ثري، وتسير حياته كالمعتاد حتى تدخل امرأة أخرى حياة الأسرة، وصفتها ناهد صلاح بـ “المرأة اللعنة”، التي جسدتها ليلى علوي (رضوانة الشبكشي)، الزوجة الجميلة والرومانسية ” التي تتوافر لها في مظهرها أسباب السعادة لكن القدر الطاغي يجعلها مجرد ضحية تعيسة سيئة الحظ، وفي الوقت نفسه تصبح هي نفسها سببا في تعاسة من حولها ومركزا لتفاعل المأساة واحتدامها”، فينشب صراع بين الشقيقين صراع دموي بسبب رغبتها في الاستحواذ على قلب شقيق زوجها واحتلال مكان الأم في المنزل الكبير.
“وداد” في الشيطان يعظ.. متمردة أم مقهورة؟!
ترى ناهد صلاح أن دور “وداد” الذي قامت به نبيلة عبيد في فيلم “الشيطان يعظ”، إنتاج 1981 وإخراج أشرف فهمي، هو تنويعة أخرى على نموذج “المراة اللعنة”، لكن من طبقة شعبية، فهي ابنة طناحي بائع الطعمية، فوصفتها بأنها “نذير الشؤم في واقع قاس سيطرت عليه مفاهيم خاصة للقيم الاجتماعية في زمن الاعتماد على قوة العضلات لتسيير أمور الحياة”، ولكن أنا مختلفة تماما مع تقييم المؤلفة لدور “وداد”، فهي لم تكن “نذير شؤوم” بل على العكس كانت المرأة التي يتمناها كل رجل قوي لنفسه، ولكن حظها العثر قد أوقعها بين فتوة عجوز هو الديناري/فريد شوقي، وبين فتوة شاب شطا/ نور الشريف، وكلا منهما يحاول إثبات قوته واستحقاقه للفتونة من خلال إمتلاكها، وهو ليس ذنبها، كما إن جمالها لم يكن ذنبا بالأساس، فالمأساة التي اندلعت والصراع الدموي الذي أنفجر كانت هي في قلبه وأول الخاسرين، لكنها لم تشجعه، فهذه هي وسيلة الرجال المحيطين بها في حل الخلافات القائمة بينهما، إنهم جميعا لا يعترفون إلا بمنطق القوة، والمعارك التي يجب أن تسيل فيها الدماء!
وترى ناهد صلاح إن “وداد” نموذج مرتبك “يجمع بين الجنوح الغريزي للتمرد والانصياع للتقاليد”، وإن لم يظهر من أفعال التمرد لديها سوى موافقتها على الهروب من الحارة للزواج من شطا هربا من سيطرة المعلم الديناري، وقالت إنها “المقهورة التي لم تكن تمتلك من القوة أو الرفاهية أو الوعي ما يؤهلها لتعترض أو حتى تقبل بفهم”، وأنها “فتاة مكسورة الجناح مشيت محتمية بظل رجل آخر”، وإن التغيير المفاجئ الذي حدث لها وحرضها على الهرب لم يكن نابعا من داخلها وإنما فرضه عليها رغبة شطا!
أعتقد إن كل هذه التوصيفات هي مبالغات تحمل إجحافا بحق شخصية “وداد”، ففي هذا الزمن لم يكن الاحتماء في ظل رجل شيئا مستهجنا، بل أمرا طبيعيا خاصة في الطبقات الفقيرة، فالمرأة تعيش في ظل أب ثم تنتقل لتعيش في ظل زوج، ولم يكن المجال العام مفتوحا لها لتدخل المدرسة ثم الجامعة وتبحث عن وظيفة، فمعظم نساء هذا الزمن كنّ أميات ويتزوجن في سن مبكرة، من رجل غالبا لا تختاره بنفسها، فإذا كانت قد قبلت في البداية بأن تتزوج من الفتوة الديناري وتصبح واحدة من زوجاته، فهي ولا والدها كان لديهما الاختيار للرفض، فقد كان العرض بمثابة أمر، ومن يمكنه أن يتحدى سلطة فتوة الحارة ولما؟، وعندما أحبت “شطا” وافقت على الهرب معه، وهذا ليس بالقرار السهل بالنسبة لفتاة في ظروفها، وبالنسبة للرجل الذي تتحداه، كانت فتاة شجاعة منحها الحب قوة داخلية ولم تكن مكسورة الجناح، وأرادت أن تعيش في سلام، وكانت سلوكياتها كلها نابعة من الدور الذي ارتضت أن تؤديه في حياة زوجها، كان يمكن أن ترفض أن تهرب، وتشكو شطا للفتوة، لكنها لم تفعل، كما إن التمرد قد لا يكون رد فعل حتمي عند كل الناس، هناك من يستطيع أن يعبر حاجز واحد، وهناك من يرغب في عبور كل الحواجز في الحياة، فالبشر مختلفون!
تبدو المشكلة الأساسية في هذا الفيلم هو اختصار “الفتونة” على إنها صراع على جسد امرأة، إما بالزواج عن حب، أو الزواج بدون سابق معرفة، أو عبر الاغتصاب، وما كان يحرك “وداد” غالبا هو “الخوف” من عالم ليست لها سيطرة عليه، كما إنها لا تشعر إن لديها ما يمكن أن ترتكز عليه أو تدافع به عن نفسها، فإذا كان فيها شيء من الرغبة في التمرد كان يجب أن يتم من خلال رجل وعبره وخلفه، كما إن تحقيق الأحلام بالنسبة لهذه المرأة قد يكون من خلال الأبناء، فما هي الخيارات التي كانت تمتلكها (وداد) في عالم يسيطر عليه فتوات، وهي لم تكن بـ فتوة ولا ابنة لفتوة!
نعم.. بائعة البطاطا قادت ثورة الحرافيش في فيلم “الجوع”
تستنكر مؤلفة كتاب “الفتوة في السينما المصرية” أن زبيدة بائعة البطاطا الفقيرة تتحول في لحظة إلى “ناشطة سياسية ومناضلة كبيرة حين راحت توقظ وعي الناس وتحرضهم للانتفاضة ضد ظلم الفتوة”، وترى أن تلك “الضعيفة.. المسكينة” لم تكن واعية بالقضية لتحرض الناس على التمرد، وسألت ناهد صلاح مخرج الفيلم علي بدرخان عن السبب في اختيار “زبيدة” تحديدا لتقود ثورة الحرافيش وقالت له: ألم يكن هناك وسيلة أكثر قوة واقتناعا منها؟”، فكان رد بدرخان: “لا أجد أية مشكلة في أن تقوم زبيدة بذلك؛ لأنها أولا تعرضت لظلم من الفتوة، كما ظلم أيضا زوجها الطيب الذي حماها وأواها، وهذه أمور طبيعية تحدث لا علاقة لها بصغير أو كبير، بذكاء أو بفكر متواضع، المهم أن القضية تفجرت وحققت هدفها في أن يصبح الكل مشاركا”.
لعبت المرأة في فيلم “الجوع”، إنتاج 1986 دورا في بناء الفتوة وهزيمته، فانتصار فرج الجبالي في معركة مع الفتوة خاضها دفاعا عن أمه التي يحبها، قد جعلت منه فتوة الحي بدلا من الفتوة المهزوم، وعندما تزوج للمرة الثانية بامرأة جميلة وثرية حرضته على العناية بمصالح التجار الأثرياء الذي أصبح واحدا منهم بزواجها منها، فأنقلب على ذاته القديمة التي كانت تسعى إلى مساندة الفقراء وحمايتهم إلى استغلالهم، والتنكر لأمه نفسها التي كانت علاقته بها معقدة بين الحب الجارف والكراهية العميقة بسبب “ماضيها” الذي كان يخيم على حياته ويجعله دائما في حالة دفاع عن النفس.
تلعب سعاد حسني دور “زبيدة” بائعة البطاطا، البسيطة صاحبة الجمال الحزين والغامض، التي تتعرض لمحنة حملها نتيجة لعلاقة بدون زواج مع رجل من رجال الفتوة، إلا إن هذا الرجل الذي تنكر لها يموت في المعركة التي جمعت بين فرج الجبالي وجعران، فتتزوج من جابر/عبد العزيز مخيون، شقيق الفتوة، لكن إنكسارها يستمر بعد زواجها، فهي كانت ترى أن هذه الزيجة كانت لدرء “الفضيحة” عنها بعد ظهور علامات الحمل عليها، ولم تكن زيجة تُعقد في ظروف طبيعية، فظلت علاقتها بزوجها يشوبها التوتر إلى أن حدثت المجاعة، فبدأ زوجها يسرق الدقيق من وكالة شقيقه الفتوة ويقدم الخبز إلى الفقراء والمعدمين ساكني الطرقات، وبعد أن أكتشف الفتوة ما يفعله شقيقه، بدأ في التنكيل به وتعذيبه وكان يريد قتله في النهاية، إلا إن “زبيدة” تأخذ على عاتقها مهمة تحريض “الجياع” على الثورة ضد الفتوة الظالم.
وعلى غير ما ترى الناقدة ناهد صلاح، أعتقد أن “زبيدة” كانت أكثر شخص مؤهل وواعِ وقادر على التحريض ضد الفتوة، هي كان لديها هدف هو إنقاذ زوجها، ولم تكن تسمى ما تفعله التحريض على “ثورة”، كما لم يكن هناك طريق ثاني، غير إنها تستعدي الفئة الوحيدة التي كان يسرق زوجها شقيقه ليطعمهم وهم “المعدمين”.
هؤلاء المعدمين كاتوا مدينين لجابر، ويشعرون بداخلهم أن عليهم واجب تجاهه لكن إحساسهم بالضعف أمام قوة الفتوة كانت تمنعهم، فجاءت “زبيدة” لتحرضهم وتعيد إليهم الثقة في أنفسهم، وإنهم جميعا ليسوا ضعفاء كما يتصورون عن أنفسهم، كما إنها اكتسبت مصداقيتها من مصداقية وقوة تأثير زوجها على هؤلاء المعدمين، هي لم تكن في هذه اللحظة مجرد بائعة بطاطا خرجت من العدم لتحرض الجياع على ثورة، بل زوجة الرجل الذي ساعد هؤلاء الجياع وكاد أن يفقد حياته نتيجة مساعدته لهم.
إلى جانب إن زوجها نفسه قد حاول من قبل تحريض المجموعة نفسها على المقاومة ورفض الظلم والفساد لكنهم سخروا منه، وعندما ظهرت “زبيدة” كانت تضعهم كامرأة في اختبار صعب، حيث بدت وكأنها أقوى منهم، ويجب أن يثبتوا لأنفسهم ولها أنهم كرجال قادرين على فعل شيء لإنقاذ الحارة، ثم إن “جابر” كان فرصة أخيرة لهم للنجاة، عندما حلت به هذه المحنة لم يتبق لهم “منقذ” أو وسيلة للبقاء. هذه الثورة الصغيرة التي قاموا بها بتحريض من “زبيدة” وبمساعدتها كانت فرصتهم الأخيرة للبقاء، وصراع يخوضوه من أجل أنفسهم لكن بدافع مما حدث لـ جابر!