هذا النص مليء بالمتناقضات!
قد تبدأ الجملة بالتحدي وتنتهي بالخضوع!
وكثيرا ما بحثت عن التمرد فوجدت مبررات للتبعية
ليس ذنبي!
إنها حياة لبنى عبد العزيز..
حتى أنا في لحظة ما، لم أعد أعرف ما الذي أدخلني إلى عالم لبنى عبد العزيز، وهي ليست مفضلة لدي!
هل لأن صوتا قويا قال لي “لا” بنبرة تخلو من الحماس؟
أم إني كنتُ في رحلة بحث-منذ البداية- عن مبررات لمعنى أن تتوقف الرغبة عن التمرد، لتبدأ مرحلة تغمرها متعة الخضوع، أم إني كنتُ أبحث عن نموذج نسائي حي، يقول إن التمرد ليس شأنا سرمديا بل مرحلة تنتهي لتبدأ مراحل أخرى؟، كما إنه ليس قضية شخصية بل عامة، قد يرغب المرء في التمرد ويبدأ رحلته لكنها قد تنتهي على غير ما يرغبّ!
لا أعرف!
قد يرى البعض أنه لا جدوى من محاولات مقارنة القوالب والصور النمطية التي تقدمها السينما للمرأة طالما أنها تعكس واقع لا تتمتع فيه النساء بالمساواة مع الرجال، بل يكفي أن نلاحظ ما هي الرغبات والخيالات والسلوكيات التي تقوم بها المرأة داخل الشريط السينمائي، لكنِ لستُ من محبي هذا الاتجاه. فـ لو كانت المرأة تتحرك في مجتمعات أبوية قائمة على التمييز بين الجنسين إلا أنه يظل للتغييرات السياسية وما يصاحبها من تغييرات اجتماعية-حتى لو على مستوى ضئيل- تأثير على الفيلم السينمائي ودور المرأة فيه، بل يمكن لتغيير قانون أو صدور حكم قضائي أن يكسر من صورة نمطية ويبني صورة جديدة، فكيف يكون التأثير بعد اندلاع الثورات التي تحمل معها تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية والأدوار التي يؤديها الجنسين؟
يبدو لي إن نموذج لبنى عبد العزيز، الممثلة والشخصية السينمائية، وظهورها في السنوات الأولى التي أعقبت ثورة يوليو 1952 قد يعطي صورة عملية عن معنى: أن قضية المرأة في السينما المصرية لم تكن لتنفصل عن السياسة، على الرغم من أن المجتمع المصري في ظل الثورة، كما الاحتلال، كان قائما على انعدام المساواة بين الجنسين، لكن نصوص دستورية وبضعة قوانين ورؤى قدمها جمال عبد الناصر جعلت النساء يشعرن بالتفاؤل بشأن المستقبل، لكن منعه لحرية النساء في التنظيم، وعزوفه عن الصدام مع رجال الدين قد أفرز وضعا معقدا بدت فيه المرأة وكأنها تسير خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف، وهو ما انعكس بالفعل على نسيج القصص السينمائية التي قدمتها لبنى عبد العزيز، فانتهى سعي المرأة -داخل الفيلم-نحو التحرر والتخلص من قيود الأسرة والمجتمع إلى نهاية تسلم بالخضوع والتبعية، لكن ما يثير الحيرة أن لبنى عبد العزيز، التي تقاطعت حياتها الشخصية مع حيوات شخصياتها السينمائية، مازالت تنظر إلى تجربتها على إنها سباحة ضد التيار، وإنها كانت كـ “الجندي الذي يواجه جيشا بمفرده”، مع إن هذا “الجندي” الذي تتحدث عنه قد هُزم في كل معركة شارك فيها، لكن يبدو إن ما يعنيها الآن هو أن تتذكر البدايات لا النهايات!
بدأ هذا النص من علامة استفهام متواضعة الطموح، تحاول أن تفهم كيف يمكن لـ امرأة أن تتوفر لها كل الإمكانيات لكي تصبح نجمة سينمائية، في لحظة واعدة كانت تبحث عن وجوه جديدة، ويقف خلفها رجال داعمين، وتترك كل هذا من أجل حياة عادية، لكن النص، دخل في دوامات من الأسئلة، وانتهى إلى محاولة تتبع قصة لبنى عبد العزيز، التي وقفت أمام الكاميرا لأول مرة في لحظة عنفوان جمال عبد الناصر، وغادرت مع موته السياسي بعد يونيو 1967، وكيف أصبحت في النهاية البورتريه النسائي لثورة جمال عبد الناصر!
الساحة الخالية قبل “الوسادة الخالية”!
تلعب الرغبة في “التحدي” دورا كبيرا في حياة لبنى عبد العزيز، لا يهم “تحدي” مَن ولما وإلى متى، بل هو التحدي أحيانا من أجل اثبات القدرة على التمرد وربما من أجل إثبات أن هؤلاء الآخرين الذين قالوا لها “لا” هم قطعا على خطأ، فعندما وقفت لأول مرة أمام كاميرا صلاح أبوسيف لتؤدي دور “سميحة” في فيلم “الوسادة الخالية” سنة 1957، كانت تتحدى خالها الذي صفعها وهي طفلة صغيرة في عمر السادسة، عندما سألها عن المهنة التي تحلم بها فقالت له بدون تردد “عايزة أطلع ممثلة”، فصفعها بقوة، قالت لكاتبة سيرتها هبة محمد علي “قصة امرأة حرة” بأنها صفعة لا تنساها؛ خاصة وهي الصفعة الوحيدة التي تلقتها في حياتها ” “والدها لم يضربها قط طوال عمرها”، وربما الثقة التي منحها لها والدها لكي تختار بنفسها تعود إلى رغبته في تحدي رؤية جورج أبيض، الذي لم يرحب بالشاب حامد عبد العزيز ممثلا، وقال له إنه لا يمتلك الموهبة، فأراد أن تنجح ابنته الكبرى لبنى فيما فشل هو في تحقيقه، وقال لها: “لقد ربيتك على الحرية والاستقلال، وأعطيتك ثقتي كاملة، واحترم أسلوب تفكيرك، ولهذا أترك حرية اتخاذ القرار؛ لأن الفن مثله مثل باقي المجالات، به أشياء مفيدة وأخرى ضارة، وفي النهاية أنت التي ستدفعين الثمن فلا بد وأن تكوني قادرة على تحمل المسؤولية”، ويبدو أن والد لبنى هو الوحيد من عائلتها الذي منحها مباركته لدخولها الفن حتى اعتزالها!

تبدو مصادفة مدهشة أن العام الذي شهد ظهور لبنى عبد العزيز كنجمة سينمائية هو نفس العام الذي أفل فيه نجم الرائدة النسوية درية شفيق، هي الأخرى أدت الفصل الأخير من حياتها العامة وهي تمارس التحدي تجاه رأس سلطة ثورة يوليو في مرحلة عنفوانه عقب الانتصار السياسي على العدوان الثلاثي سنة 1956!
الحقيقة أن درية شفيق كان لها نهجا “صداميا” إلى حد ما في طرح قضايا النساء على الرأي العام وفي مطالبة السلطة بمنح النساء حقوقهن قبل ثورة يوليو 1952، فهي نفسها المرأة التي قادت مظاهرة حاشدة شارك فيها قرابة 1500 امرأة، فبراير 1951 انطلقت من قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة -كانت لبنى طالبة في الجامعة نفسها آنذاك- واقتحمت مقر مجلس النواب للمطالبة بمنح المرأة حقوقها السياسية، وهي أيضا من قادت مظاهرة من نساء اتحاد بنت النيل حاصرن خلالها بنك باركليز البريطاني، قبل مظاهرة مجلس النواب بشهر واحد، ودعت إلى مقاطعته ضمن نشاطها لمناهضة الاستعمار البريطاني، وحتى بعد ثورة يوليو احتجت سنة 1954 مع نساء أخريات واضربن عن الطعام لعشرة أيام؛ لخلو لجنة إعداد الدستور من النساء، فوعدها الرئيس محمد نجيب عبر رسالة نقلها إليها محافظ القاهرة، بأن الدستور سيمنح المرأة حقها السياسي، لكن مع جمال عبد الناصر يبدو أن التحدي له أثمان باهظة!
هذا الدستور الجديد الذي صدر في يناير 1956، لم يكن واضحا بشأن الحقوق السياسية للنساء، بصورة جعلت البعض يشكك في إقراره حق المرأة في التصويت بالأساس، فقد نص على أن “الانتخاب حق للمصريين على الوجه المبين في القانون ومساهمتهم في الحياة العامة واجب وطني عليهم”، أما قانون مباشرة الحقوق السياسية فقال إن “يجب أن يقيد في جداول الانتخاب كل من له مباشرة الحقوق السياسية من الذكور، وكذلك يجب أن يقيد من الأناث من قدمت بنفسها طلبا بذلك”، أي على المرأة أن تثبت معرفتها بالقراءة والكتابة وتريد ممارسة حق الانتخاب فتتقدم إلى اللجنة بطلب بنفسها، أما الرجل الذي بلغ الثامنة عشرة من عمره فهو مدرج بشكل تلقائي في قائمة الناخبين، وهو ما رفضته درية شفيق واعتبرته “كارثة”، وقالت للصحافة الأجنبية “لو أنني وافقت على هذا الدستور دون تحفظ، أكون قد فشلت في رسالتي”، أما الصحافة المحلية فقد تجاهلت درية تماما ولم تشر بأي حال إلى نص تصريحاتها!
يبدو أن ساعة درية شفيق الرملية لدى جمال عبد الناصر قد قاربت على إسقاط آخر حباتها منذ رحلتها حول العالم سنة 1955، فـ سينثيا نلسون كاتبة سيرة درية شفيق “امرأة مختلفة”، قالت إن درية قد التزمت الصمت فيما يتعلق بعبد الناصر ونظامه الجديد “صمت فسّرته السلطات في مصر على أنه شكل مستتر من أشكال التحدي”، ولم ترتح هذه السلطات نفسها لنشاط درية وتصويرها في الصحافة العالمية على أنها واحدة من أهم نساء العالم، فبدأت الصحف المحلية في مهاجمتها وتوصيفها بـ”الزعيمة المعطرة”!
لذا لم يكن غريبا عندما أعلنت درية شفيق اضرابها عن الطعام في مقر السفارة الهندية بالزمالك، فبراير 1957 مطالبة “السلطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة للمصريين، رجالا ونساءا، وبوضع حد للحكم الدكتاتوري الذي يدفع ببلادنا إلى الإفلاس والفوضى..”، كان صبر جمال عبد الناصر على تحدي سلطته علنا قد نفذ؛ خاصة وهو يقوم بمفاوضات حساسة مع الحكومة الهندية في نفس توقيت إضرابها عن الطعام “تدخل نهرو، رئيس الوزراء، وبعث إلى الرئيس جمال عبد الناصر يرجوه السماح لدرية بمغادرة السفارة الهندية -حرة- وبالعودة إلى بيتها دون القبض عليها. ووافق جمال عبد الناصر على تحديد إقامتها في شقتها بالزمالك”، بعدها طُردت من اتحاد بنت النيل-الذي أسسته- وعينت الحكومة لجنة من خمس سيدات لإدارته، وأصدرت قرارا بإغلاق دار النشر التي تصدر مجلاتها، وضع حارس على باب شقة درية شفيق بالزمالك، واستمر في مكانه حتى نهاية عام 1959. لم تكن درية شفيق “بطلة” بالنسبة لنساء هذا الزمن، كما إن تحديها لسلطة جمال عبد الناصر كان يُرى على إنه نزعة استعراضية لديها، لطيفة الزيات-الأديبة المعروفة التي تحولت روايتها الباب المفتوح إلى فيلم سينمائي- قالت لـ نادية العلي مؤلفة كتاب “الحركة النسائية المصرية.. العلمانية والنوع والدولة في الشرق الأوسط” بأن “درية شفيق كانت امرأة أرستقراطية، وكانت تميل بشدة لجذب الأنظار، ومنفصلة عني وعن طبقتي، وقد تلقت درية شفيق مبالغ ضخمة من المال من المخابرات الأمريكية لتنشر مجلتها الفاخرة”.

بالنهاية الدرامية لدرية شفيق لم تنتهِ فقط الموجة الأولى من حركة تحرير المرأة المصرية بل اُغلق ملف معارضة جمال عبد الناصر علنا وتحدي سلطته حتى عبر الطرق السلمية، ولم يكن يعلو أي صوت فوق صوت النساء الممتنات لجمال عبد الناصر الذي “حرر نساء مصر”، وباختفاء تحدي السلطة ورمزها القوي لم يتبق سوى تحدي المجتمع و”الرجعية” أفرادا وأفكارا، فجاءت لبنى عبد العزيز لتكون رمز لقصص الرغبة في التحرر وتحدي التقاليد في السينما المصرية، لكن كُتب لتحديها أن يكون بمثابة ماراثون للجري لا تصل فيه العداءة أبدا إلى خط النهاية!

لبنى.. “المشهورة” قبل الشهرة!
تحب لبنى عبد العزيز (مواليد الأول من أغسطس 1939) أن تشير-بتواضع- إلى إن أحدا لم يكتشفها كنجمة سينمائية، فقد كانت مشهورة قبل أن تعمل بالسينما، فقالت لإحدى الصحف:”كنتُ أمثل في المدرسة، والجامعة، مخرجون كثيرون رأوني، وعرضوا عليّ أعمالا، الصحافة كانت تكتب عن نشاطي، كنت الفتاة المثالية في الجامعة الأمريكية، كنتُ مذيعة في الإذاعة معروفة إلى حد ما عند مستمعي البرامج الأوروبية، وظهرت فتاة غلاف في مجلة الجيل الجديد ومجلة الإذاعة”، أما صلاح أبو سيف مخرج المرحلة الأولى من حياتها الفنية فقد كان من بين الذين شاهدوها في الجامعة، كما كان صديقا لوالدها!
التحقت لبنى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة 1950 كنوع من “التحدي” أيضا، فقالت لعمرو الليثي، برنامج “واحد من الناس”: “ما دام كله رايح الجامعة المصرية أنا أروح الجامعة الأمريكية”، على الرغم من إن السنوات الأولى بعد تأسيس الجامعة لم تكن معترفا بها، وكان معظم طلابها من الذين لم يرغبوا في الالتحاق بالجامعة المصرية من أبناء الطبقة العليا، أو الطلاب العرب، ولم تُقبل لبنى في قسم الصحافة الذي كانت ترغب به بسبب عدم إجادتها للغة العربية، فالتحقت بقسم علم الاجتماع، لكنها درست الفن في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال منحة فولبرايت، وكانت الفتاة الوحيدة وسط مجموعة من الرجال الأكبر منها سنا الذين اختيروا في تلك السنة، عام 1954 وعادت لبنى إلى مصر في العام التالي؛ وتحدثت مع مجلة “الكواكب” عن دراستها وقالت إن أستاذ مادة الماكياج “سألها ما هي الشخصية التي تريدين أن تتقمصيها؟، قالت له كليوباترا، ضحك وقال لها: فلتكن شخصية إليزابيث ملكة إنجلترا أولا”.
من بين الأدوار التي أدتها على خشبة مسرح الجامعة الأمريكية وتعتز بها هو دور “ماشا” في مسرحية “الشقيقات الثلاث” لـ تشيكوف، تذكر لبنى في سيرتها “قصة امرأة حرة” إن جمهور هذا العرض كان من “كبار الشخصيات في مصر، كانت تنظر إلى الصالة فتجد فتحي غانم هنا وإحسان عبد القدوس هناك، وتلمح أحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وغيرهما من القامات الثقافية والأدبية، بالإضافة إلى السفراء، والدبلوماسيين، لدرجة أن السفير الأمريكي سأل عنها بعد العرض، وهنأها على اتقانها للدور”، وكان سببا في شهرتها في الأوساط الفنية والثقافية، وكتبت معظم الصحف عنها، وتحب لبنى أن تتذكر دائما إن الناقد رشاد رشدي كتب عنها أربع صفحات في إحدى المجلات، إعجابا بأدائها!
إحسان عبد القدوس الذي كتب لها أول أفلامها “الوسادة الخالية” وأشهرها “أنا حُرة”، كان جارا لها في حي جاردن سيتي بالقاهرة، وكانت تربطه بعائلتها صداقة قوية، وهو من “ألح عليها” لكي تكون بطلة رواياته وكان دائما ما يقول لها “رواية أنا حرة قصتي وقصتك”.

لكن من اختار فيلم البداية للبنى عبد العزيز كان عبد الحليم حافظ، فقد أصر على أن يكون فيلم “الوسادة الخالية” قبل “أنا حُرة”، فكان له ما أراد، وظهرت لبنى للمرة الأولى على شاشة السينما في فيلم من بطولة عبد الحليم حافظ، قصة إحسان عبد القدوس، وإنتاج رمسيس نجيب، والإخراج كان لصلاح أبو سيف في مرحلة يحب النقاد أن يطلقون عليها “مرحلة الرومانسية” في حياة مخرج الواقعية، تتضمن أيضا أفلام: أنا حرة، الطريق المسدود (مع فاتن حمامة)، هذا هو الحب، ورسالة من امرأة مجهولة.
يرى الناقد عصام زكريا في كتابه “أطياف الحداثة.. صور مصر الاجتماعية في السينما” أن لبنى عبد العزيز كانت “رمزا للمرأة الجديدة التي نادى بها قاسم أمين ووعدت بها ثورة يوليو”، أتفق معه، لكن المشكلة أن المرأة المصرية بعد ثورة يوليو 1952 قد تجاوزت في طموحها ما نادى به قاسم أمين قبل نصف قرن من الثورة، فكانت المرأة تتطلع إلى المشاركة بفاعلية في مؤسسة الحكم، وأن يُجرى تغيرات جذرية على قوانين الأحوال الشخصية لا تجعل موازين القوى في العلاقة الزوجية بيد الرجل، وكانت ترغب في أن تُمنح حق التعليم والتنقل والسفر وأن يُنظر إليها على أنها مواطنة كاملة لا مواطنة من الدرجة الثانية، لكن تأطير لبنى عبد العزيز في نموذج “المرأة الجديدة” هو بمثابة رجوع للخلف لا خطوة للأمام، ويمكن اعتبار فيلم “الوسادة الخالية” نموذجا مثاليا على هذا المعنى!
قاسم أمين في كتابه “المرأة الجديدة” الصادر عام 1900، لم يكن يطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية، فقال في كتابه “أننا لا نزال الآن في احتياج كبير لرجال يحسنون القيام بالأعمال العمومية. وأن المرأة المصرية ليست مستعدة اليوم لشيء مطلقا، ويلزمها أن تقضي أعواما في تربية عقلها بالعلم والتجارب؛ حتى تتهيأ إلى مسابقة الرجال في ميدان الحياة العمومية”. وفي المقابل طالب أمين بنوعين من التعليم للمرأة: “.. مهما اختلف الناس في فهم طبيعة المرأة لا يجوز أن يدعي أحد أنها يمكنها أن تستغني عن الأعمال التي تحافظ بها على قواها الحيوية وتعدها للقيام بحاجات وضرورات الحياة الإنسانية. كذلك مهما اختلفنا في تحديد وظيفة المرأة في العالم، لا بد أن نعترف أنها لا يمكنها أن تتخلى عن الأعمال والمعارف التي تتعلق بواجباتها العائلية”.

وجاءت ثورة يوليو فمنحت المرأة حق الترشح والانتخاب، فقدمت نموذجا للمرأة الجديدة المعدّلة، نموذج قاسم أمين مع إضافة الحقوق السياسية، لكن دون أن تقدم أي مساعدة في تأهيل النساء وتشجيعهن على ممارسة هذا الحق، خاصة وإن نساء مصر لم يمارسن أبدا هذا الحق قبل عام 1956، فبدا إنه حق معطل أو على الأقل مقتصرا على فئة بعينها دون أغلبية المصريات!

يأتي فيلم “الوسادة الخالية” ليجسد في خلفية علاقة الحب بين شابين، جوهر التمييز بين الرجل والمرأة، فـ صلاح شاب جامعي طموح يدرس في كلية التجارة أما الفتاة التي يحبها “سميحة” فهي طالبة في مدرسة الثقافة النسوية، و”النسوية” هنا لا تشير إلى النسوية بالمعنى التي نعرفها به اليوم، بل فنون النساء في المطبخ والمشغولات اليدوية، وهذا الملمح يشير أيضا إلى صلب قضية “مجانية التعليم”، فقبل ثورة يوليو كان التعليم مجانيا حتى المرحلة الثانوية، أما مجانية التعليم الجامعي لم تبدأ إلا مع عقد الستينيات، أي إن تعليم النساء بالنسبة للطبقة الوسطى في مصر قد يتوقف عند المرحلة الثانوية/المجانية، وقد يفضل ابناء تلك الطبقة أن تدرس المرأة ما يؤهلها لكي تصبح زوجة مثالية، أو تلتحق بمدارس لتكون معلمة أو ممرضة/حكيمة، أما الرجل فيمكن أن يُمنح فرص أكبر في الحصول على التعليم الجامعي. وتظل كل الخيارات متاحة بالنسبة لرجال ونساء الطبقة العليا.

يقول الناقد عصام زكريا في كتابه السابق الإشارة إليه إن “من يتأمل “الوسادة الخالية” سوف يكتشف أن البطلة -لأول مرة في السينما المصرية ربما- هي صاحبة النصيب الأكبر من العقلانية مقارنة بالبطل المندفع الأهوج، وأنها مع زهرة العلا قدمتا نموذجين رفيعين للمرأة الجديدة”، لا أوافق، إن ما يسميه زكريا بـ “العقلانية” يمكن تسميته أيضا بـ “السلبية” في مواجهة بطل/رجل إيجابي، منع إحسان عبد القدوس الشخصيات النسائية في قصته من حقهن في الفعل، قد يكون بمثابة إضافة وإبراز لقدرة الرجل على المبادرة والدفاع عن حقه في الحب وفي الزواج ممن أحبها، وما يثير الحيرة بالنسبة لي إن لبنى عبد العزيز نفسها قد اختبرت في حياتها الشخصية موقفا مشابها واتخذت سلوكا مغايرا عن “سميحة”.
في قصاصة جريدة بدون أي تفاصيل عن الصحيفة أو متى نُشرت، كان هناك حوارا بين لبنى عبد العزيز ووالدها، كان يذّكرها فيه بموقف نادر في علاقتهما وقف معارضا لها، عندما جاءت لتخبره إنها ترغب في الزواج بشاب أحبته، رفض بالطبع ومنعها، رغبة في أن تتابع دراستها، لكنها قالت إنه الموقف الوحيد الذي كرهته فيه، أي إن المرأة في حياتها تتخذ موقفا يعكس نمطا مغايرا عن توقعات المجتمع، يتناسب مع “المرأة الجديدة”، لكن الشخصية السينمائية تقدم سلوكا يعكس صورة نمطية من الاستسلام إلى اللامبالاة، فلا فرق بين صلاح/عبد الحليم حافظ أو فؤاد/عمر الحريري، فهي تحب صلاح لكن عندما يتقدم الطبيب لخطبتها تتزوجه، بل تنسجم معه بسرعة لا تتناسب مع رجل عرفته قبل أسابيع من الزواج، ظهر إن صلاح هو من يتعذب أكثر، من يبالي بالحب ويتألم أما هي فقد تركت الأقدار تدفعها مثل ريشة في مهب الريح!

النسخة الشعبية من ممثلة “خواجايه”!
تروي سيرة لبنى عبد العزيز “قصة امرأة حرة” إنها عاشت طفولتها كواحدة من “بنات النخبة” في حي جاردن سيتي، كانت الأولى بين ستة أبناء للصحفي بجريدة الأهرام حامد عبد العزيز، وكانت لبنى تعيش مع أبويها وأشقائها وجدتيها لأمها ولأبوها في المنزل نفسه، كانت دراستها باللغة الإنجليزية منذ البداية وحتى حصولها على درجة الماجستير من الولايات المتحدة، وقد عملت في الإذاعة المصرية لكن في البرنامج الأوروبي، لذا لم يكن غريبا إن أول يوم تصوير لها في فيلم “الوسادة الخالية” تسمع صوتا خلفها يقول “جايبين لنا خواجايه تمثل.. دي مش عارفة تقول صلاح”، يبدو إن هذا الموقف كان له تأثيرا عميقا على لبنى لدرجة إنها في كل لقاء معها تتذكره، وتنطق الجملة كما سمعتها، ربما لمست هذه الجملة العابرة وترا حساسا بداخلها، فطريقتها في الحديث قد تبدو أحيانا كما لو كانت أجنبية تحب مصر وتبذل جهدا لكي تتحدث كـ أهلها، وربما إن عدم إجادتها للغة العربية وتفكيرها باللغة الإنجليزية، قد جعلها بشكل تلقائي تستعيض عن الكلمات العربية بأخرى إنجليزية، فبدت لزملائها “خواجايه”، لذا إحساس صاحب/ة الصوت خلفها كان عفويا نابعا من انطباعه عنها عندما بدأت في نطق جمل الحوار، وهذا الانطباع سيصاحبها دائما طوال عملها بالسينما، وربما كان دافعا قويا لها لكي تؤدي أدوار: عاملة منزلية، متسولة، فلاحة، سايس في اسطبل، لكي تتحدى وتثبت لمنتقديها إنها ليست “خواجايه” ويمكنها أن تؤدي أي دور وبأي لهجة!

إذا كان فيلم “الوسادة الخالية” فيلم لبنى الأول، جاء برغبة عبد الحليم حافظ، فإن “هذا هو الحب” (1958) سيكون بناء على رغبة صلاح أبو سيف واختياره “كان عايز يعمل مني حاجة شعبية، شخصية من الشعب، من الطبقة المتوسطة اللي هي معظم الشعب المصري”، كما قالت لبنى في لقائها مع عمرو الليثي في برنامج “واحد من الناس”، وستتأجل مرة أخرى رغبة إحسان عبد القدوس في تحويل روايته “أنا حرة” إلى الشاشة.
جاءت لبنى عبد العزيز كبطلة سينمائية في نهاية سنوات “مثمرة” في تاريخ الإنتاج السينمائي المصري، فتقول درية شرف الدين في كتابها “السياسة والسينما في مصر”، بأن الثورة وحتى 1960 لم تكن قد حددت شكل علاقتها بالسينما “بحيث بات وجود تلك الثورة على الشاشة كتحول سياسي واقتصادي واجتماعي غير ملموس”، وارتضت الثورة باستمرار تقاليد العهد القديم وأن “تظل الرؤية لها مدارها أن السينما مشروع تجاري، يستهدف تحقيق الربح السريع بإنتاج أفلام يقصد بها الترفيه عن الجماهير، والتصدير إلى العالم العربي”.
من ناحية أخرى، كان الإنتاج السينمائي في معظمه غائبا عن الواقع، إما عبر أفلام وطنية غير متقنة وجدت طريقها للعرض بعد منعها في فترة ما قبل الثورة، أو أفلاما بها إدانة للعهد الملكي “إما من منطلق الإيمان الحقيقي بتلك الثورة، أو تملقا لرجالها”، وتتابع درية شرف الدين، أن تلك السنوات نفسها شهدت البذرة الأولى لـ “سينما الخوف”، أي التي خاف صانعيها من تناول الواقع، ووجدت في الانسحاب إلى الماضي بعضا من الحرية المفتقدة في الحاضر، تنتمي أفلام لبنى عبد العزيز في معظمها إلى “سينما الخوف”، على الرغم أنها توجه نوعا من النقد الاجتماعي إلا إن صنّاع هذه الأفلام كانوا حذرين من أن تظهر أي رموز تشير إلى زمن الفيلم إلا إذا كان يدور في الماضي بالفعل.

وهناك ملمح آخر يتعلق بأفلام تلك المرحلة من حياة لبنى عبد العزيز، فيرى الناقد عصام زكريا في كتابه “أطياف الحداثة.. صور مصر الاجتماعية في السينما”، إن معظم أفلام صلاح أبو سيف في تلك المرحلة، خاصة المأخوذة عن روايات إحسان عبد القدوس، كانت تدافع عن “حق المرأة في أن تكون لها غريزة جنسية وماض عاطفي”، لكن يتنازع خلالها ميلان متناقضان، الأول ينظر إلى المرأة وغريزتها الجنسية كمثال للحيوانية لدى الإنسان، وحتى مع عدم الإدانة المباشرة لهذه “الحيوانية”، لكن شروط “الرقابة الاجتماعية” كانت تستدعي إدانة هذه النزعة بقوة ووضوح وتفرض “النهايات السعيدة” بموت المستسلمين لغرائزهم، وفيلم “هذا هو الحب” تجسيدا لهذا المعنى على الرغم من إنه لا يتضمن نهاية الشخصية بالموت وليس من تأليف إحسان عبد القدوس بل القصة والسيناريو والحوار لـ محمد كامل حسن المحامي.
نُسجت شخصية “شريفة” في فيلم “هذا هو الحب” بخيوط متناقضة بالأساس، فجاءت مشاعرها عكس سلوكياتها وبدت لو كانت امرأة منافقة أو مزيفة، فهي امرأة شابة خجولة ورقيقة، تصلي، لا تخرج من المنزل إلا نادرا، درست في مدرسة الثقافة النسوية إلا إن تفاعلها مع جارها الشاب امتزج فيه الاهتمام في العمق والتظاهر باللامبالاة، فهي تجلس بجوار النافذة بحيث تبدو إنها لا تراه، لكنها في الحقيقة ترى انعكاس صورته في المرآة، يرسل إليها خطابا لكنها تعنف المكوجي الصغير وتمزق الخطاب أمام جارها، لكنها تعود وتجمع الخطاب الممزق وتقرأه بل تحتفظ به كدليل على الحب، جارها “حسين” كان مثلها رجلا تعصف به المتناقضات بل يبدو كما لو كان مختطفا من القرن التاسع عشر على الرغم من مظهره العصري ومهنته كمهندس مدني.
يبحث “حسين” عن امرأة يكون هو أول رجل في حياتها “بنت خام مبتعرفش اللي بنات الايام دي بيعرفوه”، كما قال لصديقه، وعندما مزقت “شريفة” الخطاب ابتهج؛ لأنها كان يختبرها “عارف لو ردت عليا مكنتش اهتميت بيها ابدا”، بعدها أتخذ “حسين” قراره بالزواج من “شريفة” فورا، على الرغم من إنه كان عازبا لفترة ليست بالقصيرة “أنا كنت في الأول مش راضي أتجوز لأني مكنتش لاقي البنت اللي معندهاش تجربة في الحب، معندهاش مغامرات، أنا حبيت شريفة لأنها بنت خام اقدر اخليها زي العجينة في إيدى”!

ترى نوال السعداوي في كتابها “المرأة والجنس”، إن المجتمع “بنظمه وقوانينه ومؤثراته وضغوطه يكبت المرأة فيعوق هذا الكبت نموها الفكري والنفسي، ويحول دون تحررها من السلبية والاعتماد على الآخرين”، من ناحية أخرى تواجه الفتاة منذ طفولتها تناقض المجتمع نفسه، فهو يحذرها من الرجال ويخيفها من الجنس ويفرض عليها العفة، لكن في الوقت نفسه يشجعها على أن تكون “أداة جنس” فتتعلم “كيف تكون جسدا فقط وكيف تجعل هذا الجسد جميلا وتزينه لتجذب الرجل”.
لذا يبدو إن تناقض “شريفة” انعكاس طبيعي لما تعلمته منذ الصغر ونتيجة أيضا للخبرات التي تتوارثها النساء عند التعامل مع الرجال، فهي تقول له لا وهي تعني نعم؛ لأنها تعلم إن هذا ما يرضيه ويجعله يثق بها وباختياره لها، ومع الوقت “يظن المجتمع أن هذه هي طبيعة المرأة وينسى أنه هو الذي فرض عليها هذا التناقض”، كما تقول نوال السعداوي.

وعلى الرغم من عملية التوبيخ التي تعرض لها “حسين” على أفكاره الرجعية، ذهب إلى العمل فوجد زميل له يقرأ من جريدة “إن الرجل في مجتمعنا يمارس حرياته على نطاق واسع قبل الزواج، فإذا جاء وقت الزواج بدأ يحاسب زوجته على ماضيها”، وتحدث مع صديقه بهجت/عمر الحريري فقال له “.. لغاية ما تعترف إن الست مش زي الجزمة أبقى فكر في الجواز تاني”، إلا إن نهاية الفيلم كانت “ميلودرامية مخجلة تهدم كل ما سعى الفيلم لبنائه”، على حد تعبير عصام زكريا، فقد هربت “شريفة” يوم زفافها على رجل آخر من أجل أن تعود لـ “حسين” الذي يبدو إنه لم يتعلم شيئا طوال رحلته؛ لأن هذه النهاية السعيدة الوحيدة المقبولة بالنسبة للمشاهد الرجل المصري، فما سمعه “حسين” من لوم وتوبيخ يكفي وليعود إلى زوجته ليخرج المشاهد سعيدا، ولأن ما فعله بالنسبة لقطاع عريض من الرجال ليس سلوكا غريبا، بل شائعا، فالمجتمع الذي تنعدم فيه المساواة بين المرأة والرجل، تزيد الضغوط على المرأة “فتزيد من احساس الرجل بايجابيته فإذا بها تتحول إلى مبالغة في السيطرة وميل إلى الأنانية والسادية”، كما تقول نوال السعداوي في “المرأة والجنس”، لذا عودة “شريفة” إلى جلادها كان سلوكا متوقعا من امرأة وُضعت في دائرة السلبية منذ البداية، تزوجها “حسين” لأنه أراد ذلك، وطلقها عندما هُدمت توقعاته، تم توبيخه، مزقته مشاعر الغيرة من أن زوجته ستتزوج رجل آخر غيره، ضغط من أجل أن تعود إليه، فعادت يوم زفافها والمأذون يعقد قرانها. نهاية منطقية في مجتمع ممزق!

لا حرية للنساء قبل تحرر الوطن.. لا حرية للنساء بعد تحرر الوطن.. فالجميع عبيده!
قالت لبنى عبد العزيز لعمرو الليثي عن حياتها قبل التمثيل “كان فيه كام حاجة كده في العيلة البنات ممنوعة منها كأنها مواطنة من الدرجة الثانية، يعني الولد يعمل اللي هو عايزه لكن البنت لأ”، لذا اعتبرت هي إن رواية “أنا حُرة”-التي صدرت للمرة الأولى عام 1954- هي قصتها كما هي قصة إحسان عبد القدوس، حيث كان يصنع إسقاطا على حياته هو من خلال شخصية “أمينة”. ودائما ما تعتبر لبنى هذا الفيلم هو “الأهم” في مسيرتها؛ لجرأءته ولأنه ” أظهر-وبشكل صادم للمجتمع- المرأة المصرية، كشخصية مستقلة لها أفكارها، وفي نفس الوقت تحافظ على العادات الشرقية”، كما قالت لكاتبة سيرتها هبة محمد علي، حتى في مرحلة مبكرة من حياتها الفنية كانت ترى فيلم “أنا حرة” “قصة جديدة من نوعها”، ففي لقاء تليفزيوني مع محمود السعدني، بعد مرور 6 سنوات على بدايتها الفنية، كانت تعتقد إن هذا الفيلم، قدم لأول مرة “الفتاة المصرية بتحاول تتحرر من التقاليد اللي إحنا متعودين عليها، مطلعتش البنت مسكينة وغلبانة والمجتمع مسيطر عليها، والأسرة مسيطرة عليها، لأ، كانت بنت تبحث عن الحرية”، لكن للأسف نهاية هذا الفيلم لم تحمل معاني الحرية التي كانت تبحث عنها الشخصية، بل كانت نهاية تسخر من تمرد “أمينة”، وتضعها في نفس الدائرة مع عمتها/زوزو نبيل التي كانت تنتقد خضوعها، فأصبحت نسخة منها، واللافت أن نهاية الفيلم قد ألغت نهاية الرواية المتحررة وتدخل صناع الفيلم كلهم لكي يعيدوا “أمينة” إلى صوابها ومن هؤلاء كان نجيب محفوظ.
قليلة هي الخطابات التي ألقاها جمال عبد الناصر وذكر فيها المرأة، ففي خطاب له في جمع من النساء بمناسبة الاحتفال بإعلان الدستور يناير 1956 قال: “.. لقد كافحت (المرأة) بجانب الرجل.. كافحت من أجل هذا الوطن وأدت ما عليها من واجبات، وآن الأوان لكى تشعر بأن الوطن يقدرها ولا ينكر ما قامت به من خدمات، ولا ينكر ما قامت به من جهاد”، أي إن الحقوق السياسية وحق المرأة في العمل جاءا نتيجة لمساهمتها في التحرر الوطني من الاستعمار، وتأكيدا على فكرة أنه لا يمكن للنساء أن يتحررن إلا إذا تحرر الوطن، وهذا هو محور رواية “أنا حرة” وكذلك نسختها السينمائية، فـ أمينة التي تتمرد على عائلتها ثم مجتمعها وتتخذ موقفا معاديا للرجال، وترغب في دخول الجامعة والعمل، وترفض الزواج حماية لحريتها لكنها ستقع في فجوة عميقة من الفراغ “ولم تكن تعتقد أن طريق الحرية.. هذا الطريق الشاق الذي لهثت في كل خطوة خطتها فيه، يمكن أن ينتهي إلى هذا الفراغ الكبير.. لم تكن تعتقد أن الحرية نفسها في هذا الفراغ”، كما يقول إحسان عبد القدوس في روايته، ثم تفكر “أمينة” أن هذا الفراغ لن يملأه إلا رجل “رجل يمنحها أكثر من القبلات وأكثر من الصداقة”، سيكون هذا الرجل هو عباس جارها القديم في حي العباسية، وعندما تتعرف إليه ستجد إنه صحفي مهموم بقضية تحرر مصر من الاستعمار، فيتحول كل اهتمام “أمينة” من حماية حريتها إلى الحياة مع عباس “ولم تكن تشعر هي نفسها برغبة كي تعمل شيئا وكان يكفيها دائما أن يعمل عباس.. لم تكن تحس برغبة لتكتب فكان يكفيها أن يكتب عباس وكأنه يكتب لها، ولم تكن تحس برغبة في الاشتراك مع الزملاء في حديثهم ومؤامراتهم وثورتهم، إنما كان يكفيها أن يتحدث عباس ويتآمر ويثور..”، وهو التسلسل الذي التزم به الفيلم، لكن الخلاف جاء على فصل النهاية!

في الرواية تحولت أمينة إلى امرأة فقدت حريتها الشخصية-باختيارها- من أجل حبها لعباس، فقد أدركت أن الحب والحرية لا يجتمعان ” لم تعد حرة.. فهي دائما ملك له، وملك لنزواته، وملك لأوقاته، وملك لما يريد..”، ولم تعد مشغولة بأن ما يجمعهما هو الحب أو الحب والزواج، فقد عاشت أمينة مع عباس في بيته بدون زواج، وانتهت الرواية بـ “إنها لا تفكر في الزواج لأن عباس لا يفكر فيه.. وهو لا يفكر في الزواج لأنه لا يؤمن به”، وهو ما أربك صناع الفيلم خاصة كاتبي السيناريو والحوار نجيب محفوظ والسيد بدير “هل يتركان هذه الإشكالية كما هي، فتقوم الدنيا ولا تقعد، أم يحلان الأمر بما يرضي المؤسسة الاجتماعية المحافظة بطبيعتها، خصوصا أن الفيلم سيراه شبان وشابات تربوا على التمسك بالتقاليد التي تجعل من الأسرة عماد المجتمع؟!”، كما يقول جابر عصفور في مقال له بصحيفة الأهرام عن الفيلم!

فجاء فصل الختام في فيلم “أنا حُرة”-إنتاج 1959- بأن شاركت أمينة في نشاط عباس السياسي، فساعدته على توزيع المنشورات، وقٌبض عليهما معا، وظهرت صورة كبيرة للملك فاروق في خلفية مشهد التحقيق معهما، وبعد أن حُكم عليهما بالسجن 5 سنوات في اتهامهما بمحاولة قلب نظام الحكم، كان هناك مشهد لـ أمينة وهي تعتذر لزوج عمتها/حسين رياض “عن المضايقات اللي سببتها لهم لما مكنتش عارفة معنى الحرية” وطلبت أن تتزوج عباس وهما في السجن، وبالفعل تزوجا يوم الأحد 20 يوليو 1952، وانتهى الفيلم بعد أن قالت لـ عباس “دلوقتي بس حاسة إنها حرة”، كما إن الفيلم قد جعل عباس رافضا للزواج؛ لإنه دائما في خطر بسبب نشاطه السياسي “دايما مهددين بالسجن لإننا أعداء الحكومة والسرايا والاستعمار، إزاي واحد حياته مهددة يفكر في الجواز”، وهو سبب اعتبره صناع الفيلم أكثر قبولا في مجتمع محافظ!

لكن هناك سبب آخر-في رأيي- غير أن صناع فيلم “أنا حرة” شعروا بالحرج من تقديم نموذج يعيد إنتاج العلاقة بين جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، في مجتمع شرقي لا يقبل بعلاقة متحررة بين رجل وامرأة، حتى لو كان هذا المجتمع قد أتخذ خطوات واعدة فيما يتعلق بتحرر المرأة واستقلاليتها، تظل هناك إشكالية لم تُحسم، وهي قضية قانون الأحوال الشخصية!
يشير كتاب “الحركة النسائية المصرية.. العلمانية والنوع والدولة في الشرق الأوسط” إلى إن فترة حكم جمال عبد الناصر قد شهدت تراجعا في النشاط النسائي، وقدرة النساء على تنظيم أنفسهن، كنتيجة لمراقبة الدولة المتشددة للنشاط السياسي وحظرها للمؤسسات المستقلة، لكن هذه الدولة نفسها قد احتكرت في المقابل “قضية المرأة”، وقدمت العديد من التحولات الكبرى في وضع النساء في المجال العام، فحصلت المرأة على حق الانتخاب والترشح، ومُنحت حق العمل بنص دستوري، والتزمت الدولة بتعيين كافة الخريجيين، وجعلت التعليم الجامعي مجانيا، لكن ظلت قوانين الأحوال الشخصية التي صدرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين معمولا بها، ولم ترغب الدولة في الدخول مع مؤسسة الأزهر في صدام حول إصلاحات عن الزواج والطلاق وبيت الطاعة وحق الزوج في حرمان زوجته من العمل والسفر والتعليم، وخُلق وضعا معقدا من جوانب عدة!
فيشير الكتاب إن “الاتجاه النسوي للدولة في عهد جمال عبد الناصر” قد أفرز نساء مستقلات عن عائلاتهن، لكنهن معتمدات على الدولة في: التعليم، الصحة، التوظيف، التمثيل السياسي، فأنشأ بذلك “نظاما أبويا عاما ووضع تنظيما له”، من ناحية أخرى ظل مبدأ اعتماد المرأة على الرجل وتبعيتها له كقاعدة أساسية في العلاقة الشخصية بينهما، لذا، تمتعت المرأة -قانونا- بحقوقها في المجال العام، لكنها في المنزل تواجه وضعا يمكن للرجل فيه تقويض كل ما منحتها لها الدولة، بفعل قانون الأحوال الشخصية، أي يمكن أن تصبح المرأة وزيرة ويمنعها زوجها من السفر، أو يطلقها غيابيا، أو يطلبها في بيت الطاعة، أو يحرمها من أبنائها بعد الطلاق أو يتزوج عليها امرأة أخرى، أو يتركها معلقة بدون زواج أو طلاق!

لذلك جاءت نهاية رحلة تحرر واستقلال “أمينة” في الرواية والفيلم بإقرار التبعية لـ “عباس”، وتنازلها عن حريتها لصالحه ومشاركتها له أفكاره ونشاطاته كسلوك “عادي” لم يثر التساؤلات وقتها، حتى إن لبنى عبد العزيز نفسها لم تر أبدا إن نهاية القصة كانت نقيض بدايتها، وتنفي عن المرأة أي محاولة في التحرر بمعزل عن الرجل وبعيدا عن قضية تحرر الوطن، فالواقع كان يقول إن الدولة قد منحت المرأة ما طالبت به لنصف قرن، و”حصلت المرأة المصرية على كل ما كان ينبغى لها من حقوق”، كما أقر جمال عبد الناصر في خطاب له بمناسبة افتتاح مجلس الأمة يوليو 1957، لكن تحت سطح هذا الواقع المشرق كان هناك حقوقا سيطر عليها رجال الدين، الذين ازدادوا تشددا؛ نكاية في دولة فرضت عليهم قبول منح المرأة حق العمل والحقوق السياسية، لكنهم لم يكونوا يوجهوا غضبهم نحو السلطة بشكل مباشر، فقد دخل الكاتب أحمد بهاء الدين في مناوشات على صفحات الجرائد مع الشيخ محمد أبو زهرة، وكتب مقالا في صحيفة أخبار اليوم سنة 1961 بعنوان “لا ياشيخ” قائلا: “خرجت مجلة “منبر الإسلام” تحمل مقالا للشيخ محمد أبو زهرة يسبني سبا مقذعا، ويستعدي عليّ الله، ثم الدولة، وأصحاب المؤسسة التي أعمل فيها.. طالبا أن تطردني المؤسسة من عملي، وأن تضعني الدولة في سجونها، وأن يسوقني الله إلى جهنم يوم القيامة!؛ لأن بهاء الدين كتب عن الأسرة وعلاقة الرجل بالمرأة ووضع المرأة في المجتمع الاشتراكي، مدافعا عن حق المرأة في العمل ومؤيدا للمساواة بين الرجل والمرأة!
لذا، لا يمكن لأحد أن يتصور -وقتها- إن غالبية الرجال في المجتمع المصري قد استقبلوا الحقوق الجديدة للنساء بالترحيب، بل خضعوا لسلطة الدولة القوية وشعروا إنهم لا يملكون حق الاعتراض علنا على سياسية جمال عبد الناصر، لذلك كان منطقيا أن ممارسة النساء للحقوق السياسية تشهد صعوبات جمة، أثرت على تمثيلهن في مجلس الأمة، مما أفرز نظام “الكوتة” الذي يعطي الحق لرئيس الدولة في تعيين عدد معين من الشخصيات، استخدمها -غالبا- في تعيين نساء وأقباط!
الهروب من الواقع.. ومن الرقابة!
ترى لبنى عبد العزيز أن القبلات تمثل الجانب القبيح للفن، كانت تكرهها بشدة، وتؤديها على مضض؛ فهي مقتنعة إن هذا الفعل “لا يمكن أن يتم بدون إحساس ورغبة حقيقية فيه، وهو ما لا يتوافر في السينما بالطبع”، كما قالت في سيرتها “قصة امرأة حرة”.
يضع البعض أفلام لبنى عبد العزيز ضمن ما يمكن تسميته بـ “سينما المرأة” التي تخاطب المشاهدة الأنثى، لكنِ أعتقد إن ما يمكن إدراجه في قائمة “سينما المرأة” من أفلامها: “أنا حرة” وفيلم “رسالة من امرأة مجهولة”، فالأفلام التي تخاطب الأنثى لا تعتمد غالبا على نفس “الآليات النفسية” التي تتبناها الأفلام التي تستهدف الذكور، من إضافة مثيرات الشهوة والتماهي النرجسي، بل تعرض على الشاشة نماذج تختفي فيها المسافة التي تميز موقع المشاهد الذكر، القوة التامة والإثارة للشهوة، وتستبدلها بصور للمرأة لا تصبح فيه موضوعا للتحديق “كجسد مثير كثيرا ما يتعرض للامتهان” بل موضوعا للرغبة أو المعاناة “وقد تبدأ البطلة في هذه الأفلام كامرأة تتميز بالفعل الإيجابي إلا إنها سرعان ما تتحول إلى موضوع سلبي، وقد يبدأ الفيلم بتسجيل لصوت البطلة ثم لا يلبث هذا الصوت أن ينمحي (..) وبدلا من أن تخلع عليه الرغبة فإنها تغلفه بالقلق والخوف”. كما يقول كتاب “النسوية وما بعد النسوية”.

شاركت لبنى عبد العزيز بطولة فيلم “رسالة من امرأة مجهولة” مع فريد الأطرش سنة (1962)، عن رواية لـ ستيفان زفايج -قدمت السينما العالمية لها أكثر من نسخة- وكتب الرسالة الأديب المعروف فتحي غانم.
في هذا الفيلم تحب “أمل” الفتاة المراهقة، جارها المطرب المشهور “أحمد سامح” حبا غرائبيا، ترتبط به عاطفيا لمدة 7 سنوات، معظمها تقرأ أخباره في الصحف والمجلات، وما جمعهما بالفعل كان لقاءا حميميا لليلة واحدة فقط، لم يعد “سامح” يتذكره أو يتذكرها هي نفسها، وفي كل مرة يراها يقول لها: “أنا حاسس إني شفتك قبل كده”(!). سأل عمرو الليثي لبنى عبد العزيز عن منطقية وجود علاقة حب قوية إلى هذا الحد مع رجل بالكاد عرفته بطلة الفيلم قالت له: “السينما هروب من الواقع”، أي إن -في رأيها- ليس شرطا أن تعرض السينما قصصا تحمل منطقا واقعيا بل يمكن أن تكون مغرقة في الرومانسية دون أن تقدم مبررا لذلك، ولكنِ أرى إن هذه النوعية من الأفلام جاءت نتيجة محاولات الهروب من رقابة غير واضحة المعالم خاصة فيما يتعلق بمحاذيرها!
يقول الناقد سمير فريد في مقال له بعنوان “ثورة يوليو والسينما في مصر، أهم المحطات والمراحل في تاريخ السينما المصرية”، أن بعد جلاء بريطانيا عن مصر، ألغت الدولة قانون الرقابة المعمول به، وصدر قانون جديد سنة 1955 يتكون من مادة واحدة “تقضي بمراعاة الآداب العامة والنظام العام”، وقال إن القانون القديم كان يتكون من عشرات المواد “تمنع تصوير كل شيء في الحياة الواقعية تقريبا”، ويبدو إن هذا الطرح كان يعني أن قانون الثورة الجديد أفضل من قانون الاحتلال القديم، لكن هذا ليس صحيحا، فالقانون رقم 430 لعام 1955 “في الظاهر أخف وطأة من القانون القديم، ولكنه في الحقيقة أكثر تعسفا وظلما، ويعكس خوفا مزمنا من حرية الفن”، كما يرى عصام زكريا في كتابه السابق الإشارة إليه.
في فترة ما قبل ثورة يوليو كان هناك تعليمات رقابية تُعرف بـ “لائحة التياترات”، صدرت لأول مرة يوليو 1911 كمحاذير للمسرح، وكانت هذه المحاذير تُطبق على السينما بطريق القياس، إلى أن أضافت “إدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي” بوزارة الشؤون الاجتماعية قيودا جديدة في سنة 1947 خاصة بالرقابة على الأفلام، وأُعتبرت البنود الجديدة مكملة لأحكام اللائحة القديمة.
يبدو أن في بداية ظهور “لائحة التياترات” اعتقد البعض أنها صدرت من أجل “المحافظة على الآداب العامة”، لكن هذا كان في “الظاهر” فقط، وفيما بعد أصبح واضحا إنها “صادرة خدمة لأهواء السياسية المصرية، ولصالح الاستعمار، والجاليات الأجنبية ورجال الحكم”، كانت سلطات الاحتلال البريطاني تديرها منذ البداية حتى سنة 1925، ثم أصبح يديرها مصري يتلقى تعليمات الرقابة من الإنجليز، وكانت وظيفته قانونا تقع تحت رئاسة حكمدار العاصمة بوزارة الداخلية “رسل باشا” الذي تولى هذا المنصب بين عامي 1919- 1946. كانت تعليمات “لائحة التياترات” تنقسم إلى شقين: أولهما خاص بالناحية الاجتماعية والأخلاقية ويشمل على ثلاثة وثلاثين محظورا، والثاني خاص بناحية الأمن والنظام العام ويشتمل على واحد وثلاثين محظور، وفيما يتعلق بالنساء كانت هناك العديد من التعليمات، منها على سبيل المثال: “لا يجب أن يظهر النعش أو النساء وهن يسرن في الجنازات وراء الموتى (..) وليس لائقا أن تظهر الأجسام العارية سواء بالتصوير أو بالظل أو أجزاء من الجسم التي يقضي الحياء بسترها، أو أن تذكر الموضوعات أو الحوادث الخاصة بالأمراض التناسلية والولادة وغيرها من الشؤون الطبية التي لها صفة السرية، أو أن تصور طرق الانتحار وحوادث التعذيب أو الشنق أو الجلد ومناظر العنف والقسوة البالغة”.
ثم جاءت ثورة يوليو بقانون “غامض” من مادة واحدة ولكنها “فضفاضة”؛ تنص على “المحافظة على الأمن والنظام العام، وحماية الآداب العامة ومصالح الدولة العليا” دون أن تحدد تفسير الآداب العامة أو مصالح الدولة العليا، كما إن القانون نص على “أنه من حق الرقباء تحديد مدة الترخيص بتداول العمل الفني وضرورة الحصول على تراخيص جديدة للأعمال القديمة بعد كل فترة”، بالإضافة إلى إن من حق الرقيب سحب الترخيص عن أي عمل جديد أو قديم في أي وقت “إذا طرأت ظروف جديدة تستدعي ذلك”، فوقع صناع السينما خاصة المنتجون في حيرة بشأن ما هو المسموح به وما هو الممنوع، فأصبح كل فيلم حالة خاصة يجب أن يتخذ فيها الرقيب قرارا استنادا إلى فهمه للقانون، وإذا عجز عن اتخاذ القرار يحيل الأمر إلى سلطة أعلى منه، وهكذا حتى يمكن أن يصل الفيلم إلى جمال عبد الناصر نفسه ليتخذ قرارا بشأنه، فبدأت الأفلام السينمائية تتخذ من “لائحة التياترات” مرجعا حتى بعد إلغائها، على الأقل بالنسبة للأفلام السينمائية التي أنتجها رمسيس نجيب للبنى عبد العزيز!

ففي فيلم “رسالة من امرأة مجهولة”، شخصية “أمل” تقيم علاقة حميمة مع المطرب أحمد سامح، فتصبح حاملا ثم تلد، لكن الفيلم لا يتضمن أي مشهد لها وهي “حامل” أو وهي تضع طفلها، فنحن نعرف ذلك من الحوار، كما إن مشهد العلاقة الحميمة نفسه كان يستعرضه صلاح أبو سيف عبر “قُبلة” وإشارات يفهمها المشاهد، من ناحية أخرى قدم الفيلم “أمل” بصورة إيجابية وجديدة من جوانب عدة، فلم يرافق مشهد معرفتها بحملها النحيب والصراخ المعتاد في مثل هذه المواقف، فقد تعاملت مع الأمر بهدوء ولم تبكِ، بل فكرت في المستقبل، وقررت أن تعمل أكثر من أجل طفلها، كما إن الفيلم أراد توجيه المشاهد نحو رؤية شخصية “أمل” على إنها امرأة صالحة على الرغم من إنها أقامت علاقة جنسية بدون زواج وانجبت طفلا، فجعل مديرها في شركة التأمين يقول عنها: “بنت ممتازة جدا وواخدة الشغل جد، محدش من زمايلها قدر يعزمها تخرج معاه، ولو أنهم بيغيروا منها إلا أنهم بيحبوها جدا وبيحترموها، أنجح واحدة عندي في بوالص التأمين”، لكن في الوقت نفسه أراد للنهاية أن تكون “سعيدة” بأن يعود هذا الرجل العابث والد الطفل لكي ينقذ ابنه من الموت ويكفر عن أخطائه؛ لأن الفيلم لم يكن ليمر دون هذه النهاية التي تحافظ على “الآداب العامة والنظام العام”، التي لم يكن لها تعريفا محددا في القانون!

جمال عبد الناصر يمنح وسام النيل للممثلة المغرورة
قالت لبنى عبد العزيز -وهي تشعر بخيبة الأمل، في حوار مع مجلة “الكواكب” فبراير 1964، عقب عرض فيلم “عروس النيل”: “صحيح الفيلم لم يحقق إيرادا تجاريا يذكر، ولكنه ناجح جدا من الناحية الفنية، أنا شعرت إن الجمهور هو الذي سقط في العرض وليس الفيلم” (!)
يقول إدجار موران في كتابه “نجوم السينما”، إن “التحول إلى نجمة هو بالتحديد المستحيل الممكن والممكن المستحيل. فالأكثر موهبة من بين الممثلات ليس ثمة ما يضمن لها أن تصبح نجمة، لكن أي فتاة مجهولة قد تصبح نجمة بين عشية وضحاها”، لكن لبنى عبد العزيز لم تكن فتاة مجهولة جاءت لتنضم إلى “مجاميع” فيلم أو تشارك كـ كومبارس تنطق بجملتين في كادر عابر، بل جاءت ومعها شخصيتها السينمائية، ومحمولة على أكتاف الفرسان الثلاثة: صلاح أبو سيف، إحسان عبد القدوس ورمسيس نجيب-الذي سيصبح زوجها منذ عام 1959 وحتى 1965- في لحظة سياسية واجتماعية كانت تبحث عن وجهها النسائي!

قدمت الدعاية التي صاحبت ظهور لبنى عبد العزيز لأول مرة على إنها “أول ممثلة في الوطن العربي تحمل درجة الماجستير”، وفي نص نُشر عنها عام 1972 في مجلة الكواكب-عقب اعتزالها- بتوقيع (ح.ع) قال إن لبنى دخلت الحياة الفنية “وذهنها مملوء بصور مختلفة عن العمل السينمائي الذي رأته في استديوهات هوليوود، ولهذا كانت عاجزة عن أن تفهم طبيعة الحياة والعمل في السينما المصرية، ومن هنا انطلقت الأقاويل والإشاعات تتهمها بالغرور والعنظزة”، ثم يعود ويقول إن لبنى سيدة طيبة وأبعد ما تكون عن الغرور لكن أحد الصحفيين قد “أوعز إليها” أن تتقمص شخصية الممثلة المغرورة لتثير حولها ضجة، إذن هناك أصل لصفة الغرور التي لازمتها طوال عملها بالسينما، بغض النظر عن من هو الذي أوعز إليها، ولكنها هي التي قدمت سلوكا متعجرفا، ومع ملاحظة إن معظم ممثلات السينما المصرية في هذا الوقت، لم يدخلن الجامعة بل حصلن على تعليم قد يصل إلى المرحلة الثانوية فقط، قد تكون فكرة أن هناك ممثلة جديدة ومثقفة وتحمل الماجستير من الولايات المتحدة وتتحدث الإنجليزية بطلاقة سببا كافيا لتجنبها وعدم الاحتكاك بها، فهي وإن كانت قد قدمت سلوكا متعجرفا -منذ البداية- لتصنع ضجة، فقد أعطتهن مبررا لنبذها ورفضها، وهو ما حدث بالفعل!
في لقاء تليفزيوني مع محمود السعدني، ربما يعود إلى العام 1962، قال لها في إطار نقده لما قدمته طوال 6 سنوات من عملها بالسينما “إنتِ ليكي ميزة تانية إنك مثقفة وفاهمة وعارفة كان لازم تمثلي حاجات احسن من كده، إنتِ ما مثلتيش لغاية دلوقتي الدور اللي على واحدة زيك أنها تمثله” (!)، لكنها لم تعلق على هذه الإشارة بالنفي، أي إنها تتفق معه، لكن هذه الميزة التي يشير إليها السعدني -تحديدا ثقافة لبنى ودراستها، وهي في الحقيقة ثقافة نظرية مثيرة للشفقة إذا ما قورنت بالخبرة العملية التي يمكن أن تكتسبها ممثلة موهوبة بدأت من الصفر حتى وصلت إلى قلب أفيش فيلم سينمائي، لكنها النظرة السطحية التي تصنع المقارنات بناء على مستوى التعليم في مجال بالأساس قائما على الموهبة والقبول، ثم يأتي سعي الإنسان لتطوير نفسه وصقلها بوسائل عدة من بينها القراءة والتعليم. ومن المثير للدهشة إن لبنى عبد العزيز في نهاية حوارها معه قد أعطته نبذة على ما يحدث بالفعل عندما تتحدث إلى السينمائيين عن أفكارها، فقالت له: “في الواقع أنا يمكن أكتر واحدة بينتقدوني، مابيقبلوش مني كلام، لأن بيتقال هي فاكرة روحها مين، ولما أقول حاجة لازم أكون عارفة انها هتتقبل وإلا مش هينوبني إلا التأليس أو التهزيء”. لكل فعل رد فعل!

لكن لبنى عبد العزيز في الواقع لم تكن مرتاحة لأنها أصبحت “منبوذة” الوسط الفني، وكانت تشكو شكوى مريرة على صفحات المجلات من بُعد زملائها عنها، فقالت مثلا في حوار لمجلة “الكواكب”، أبريل 1964، إنها متواضعة جدا وليست مغرورة كما يعتقد البعض “الناس بتتصور خجلي على انه غرور، أو يمكن حاجة في شكلي بتصورني كده، وده بيضايقني جدا؛ لأني كثيرا ما اسمع الناس بتقول عني وأنا مارة في الطريق أو في أي مكان (هي فاهمة نفسها إيه) أنا والله مش فاهمة حاجة خالص.. يمكن على العكس تنقصني الثقة بنفسي”، وعندما سألها المحرر: لماذا انتِ بعيدة عن الوسط الفني إذن؟، ردت قائلة: “الواقع أن الوسط الفني هو اللي بعيد عني..”.
قبلها بعدة سنوات، وتحديدا في نوفمبر 1961، سألها المحرر: “أظنك تتباعدين عن الوسط الفني.. لماذا؟”، ردت عليه وهي تضحك: “السبب هو الثقافة، الشائعات تقول أنني مثقفة وقارئة ومش عارفة إيه، وأقسم لك أنني كرهت العلم والثقافة، وكنتُ أفضل أن أكون بلا ثقافة حتى أكسب صداقة من تباعدن عني من زميلاتي!”، فالتقط المحرر الكرة وسألها: وهل تكره زميلاتك الثقافة؟، قالت له: “أبدا والله العظيم ولكنهم تصورن من الشائعات أنني أعتز بشهاداتي ودراساتي إلى حد التعالي عليهم فابتعدن عني بدون التأكد من الحقيقة”، لكن الرسالة قد وصلت: أنا مثقفة وهن لا!

تظهر أمامي مائة علامة تعجب، وابدأ في البحث عن تفسير لهذه البكائيات التي نُشرت على لسان لبنى عبد العزيز في الستينيات؛ بسبب بُعد الوسط الفني عنها، عندما شاهدت لقائها مع عمرو الليثي، يعود إلى عام 2019، تنفي فيه إنه كان لها حياة اجتماعية داخل الاستديو، وقالت: “كنتُ أمثل المشهد ومعظم الوقت أخش الأوضة لغاية ما يندهولي تاني، لما بيقعدوا ويتكلموا ويتصاحبوا بطلع من الدور، بطلع من الشخصية فمكنتش بأقبل اني أندمج مع الممثلين اللي معايا علشان أفضل عايشة الدور لغاية أخر النهار”. إذن، هي من قررت أن تبتعد-باختيارها وليس ضغطا من رمسيس نجيب كما كانت توحي أحيانا- وتعيش الدور داخل الاستديو وخارجه، فلماذا كانت الشكوى؟!

يبدو لي إن هناك سببا في الخلفية لهذا التوتر بين لبنى عبد العزيز وزميلاتها في الوسط السينمائي، خاصة في آخر سنوات وجودها في مصر قبل السفر، وهو تلك العناية التي كان يشعرن إنها تحصل عليها من القيادة السياسية، تحديدا من جمال عبد الناصر نفسه، فقالت لبنى في حوار لها مع سهير جودة بمجلة روزاليوسف بعد عودتها إلى مصر عام 1998، إنها قابلت جمال عبد الناصر مرتين وجها لوجه، الأولى قبل أن يصبح رئيسا، كانت تقدم حفلا على مسرح الجامعة الأمريكية بمناسبة الاحتفال بثورة يوليو، وكان عبد الناصر ضيف شرف الحفل، والمرة الثانية عندما سلمها وسام النيل، وقال لها: “أنا سعيد بيكِ يا لبنى”، وأضافت في الحوار نفسه إنها مُنحت الوسام بسبب إعدادها لبرنامج بعنوان “هل تعلم” عن إسرائيل- وليس عملها السينمائي- ليكون بمثابة دعاية مضادة لهم، بطلب من وزير الثقافة والإرشاد القومي عبد القادر حاتم، وكانت تعد البرنامج باللغة الإنجليزية لعدم إجادتها اللغة العربية، ثم يتم ترجمته للغات مختلفة، على أن يُذاع باللغة العربية في “صوت العرب”، كانت لبنى عبد العزيز تعد حلقات البرنامج ولا تقدمه، وكان يتم هذا النشاط بشكل سري، فلم يُعرف وقتها إنها تقف وراء هذا البرنامج.
وقف جمال عبد الناصر أيضا خلف تقديمها لبرنامج تليفزيونى-سنة 1967 أيضا- فقد تواصل معها أمين حماد رئيس الإذاعة والتليفزيون وقتها، وطلب منها تقديم برنامج “فقلت له أنني مشغولة ببرامج الإذاعة وأفلام السينما وليس عندي وقت، ولكنه صمم فقلت له: العربي عندي ضعيف جدا ولكنه لم يتنازل، وأخبرني أنني سأكون مذيعة تليفزيونية بالأمر، لأن الريس عبد الناصر هو الذي طلب ذلك”، وبالفعل قدمت لبنى برنامج بعنوان “الغرفة المضيئة” وصورت منه 8 حلقات فقط كانت من إعداد الصحفي مفيد فوزي، لكن لبنى لا تعرف حتى الآن لماذا اختارها جمال عبد الناصر لتكون مذيعة تليفزيونية من بين ممثلات السينما في ذلك الوقت، مَن يمكنه أن يعرف ما الذي يدور في رأس جمال عبد الناصر بشأن اختياره للبنى عبد العزيز؟، لكن ربما هذا الاختيار ليس بعيدا عن السبب الذي جعلها نجمة سينمائية في فترة ما بعد ثورة يوليو، فملامحها ولونها مصرية للغاية، كما إنها تعطي إنطباع أنها امرأة رقيقة وجادة ولديها إحساس بالمسؤولية مع ميل للتمرد، كما إنها لم تقدم أدوار المرأة المغوية أو الشريرة فكان هناك تماهي بين صورتها الحقيقية وبين بطلات أفلامها، وربما يكون اختيارها نزوة من نزوات رجل في السلطة ليس أكثر!

أعتقد أن جمهور فيلم “عروس النيل” لم يكن مخطئا تماما في تقييمه وقراره بالعزوف عن مشاهدته، فقد كان شريطا سينمائيا دعائيا لمصر في عهد جمال عبد الناصر، حاول أن يعقد مقارنة بين مصر الفرعونية ومصر الحديثة، كما إنه اختلق ما يسمى بـ “أسطورة عروس النيل” التي ليس لها وجودا تاريخيا، وحماس لبنى للمشاركة فيه كان جزءا من تحديها للمنتج رمسيس نجيب، فقد كان يرى أن الممثلة الجميلة لا تلعب دورا كوميديا -فكرة قديمة ستثبت شويكار إنها غير صحيحة، لكنها أصرت ومارست ضغوطا عليه بصحبة المخرج فطين عبد الوهاب، الذي قدمت معه من قبل الفيلم الناجح “آه من حواء”، لكنها فشلت في “عروس النيل”؛ لأنه فيلما مرتبكا وباهتا، حيث ترسل الدولة مهندسا ومعه معدات حفر لكي يبحث عن البترول في قلب “معبد الكرنك” بالأقصر، ولا يتصدى له سوى عالم آثار عجوز ومساعدته، فظهرت عروس النيل التي يحفر مقابرها، لتمنعه من الاستمرار في عمله. طريقة في المقاومة لا تعني سوى: فليدافع الماضي عن نفسه، فلا يمكن لأحد أن يعترض طموح هذه الدولة مهما فعلت. رسم شخصية “هاميس” نفسها يبعث على السخرية، فهي جاءت من العالم الآخر في مهمة لحماية الآثار، لكنها تقع في حب مهندس البترول، وبدلا من أن تكتفي بأن تبعده عن موقع الحفر وهو ما نجحت فيه، ذهبت خلفه في كل مكان لتفسد حياته بدافع الغيرة من خطيبته، حتى “عروس النيل” جعلتها لبنى عبد العزيز تشعر بالغيرة!

المعتقل مأوى الجميع.. فلا حماية لأحد!
في أحد الأيام حضر مجهولون إلى منزل لبنى عبد العزيز، وأخذوا زوجها إسماعيل برادة من أمام المنزل، ووضعوه في سيارة، اتصلت لبنى بوالدها الذي كانت له علاقات واسعة، فعلم أن المخابرات العسكرية هي من اعتقلت إسماعيل، وبعد 5 ساعات عاد إلى منزله، فاتخذ قرارا نهائيا بالسفر إلى الولايات المتحدة.
نشرت صحيفة الأهرام في يونيو 1963 خبرا يفيد بأن قرارا جمهوريا قد صدر بالاستيلاء على منزل الرائدة النسائية هدى شعراوي؛ لهدمه وإقامة فندق مكانه، وبعد أسبوع من نشر الخبر تلقى أحفاد هدى وحواء إدريس، ابنة خالها، خطابا يطلب إخلاء المنزل خلال 15 يوما، طلبت حواء من الحكومة مد المهلة حتى “نتمكن من تدبير أمرنا ومنعا من ألا يكون مصيرنا في الشارع. وبعد مجهود عنيف ومشاورات ومناقشات قبل المسؤولون أن تُمد المهلة إلى شهرين بدلا من الخمسة عشر يوما!”، كما تروي حواء إدريس في مذكراتها “أنا والشرق”.

خلال المهلة الممنوحة لهم “أنهالت آلاف البرقيات من كل البلاد العربية والآسيوية على الرئيس جمال عبد الناصر يناشدونه عدم هدم المنزل وتحويله إلى متحف يبرز تاريخ النهضة النسائية في مصر والحركات القومية في الشرق”، بل وقالت بعض البرقيات إن “منزل هدى شعراوي ليس ملكا لمصر فقط، وإنما ملك للبلاد العربية أيضا، لأن كل الحركات الوطنية والنهضات النسائية ولدت فيه وخرجت منه لتنتشر في ربوع البلاد”، لكن شيئا من هذا لم يكن ليثني الرئيس عبد الناصر عن قراره بهدم المنزل، بل زادت الضغوط و”التهديدات المتلاحقة” لسكان المنزل لإخلائه، فخرج الجميع منه قبل إنقضاء المدة بخمسة وعشرين يوما!
حاولت حواء إدريس أن تسأل المسؤولين لمساعدتها في إيجاد منزل بديل، فقد كانت تقيم في “غرفة متواضعة في إحدى البنسيونات”، لكن قيل لها: “أنت من الإقطاعيين فكفاك ما تمتعت به من حياة، وأن الأوامر التي لدينا أن نجعلك تعانين من حرمان ونمنع عنك كل شيء ونرفض لك كل طلب..”!

في هذه الفترة كانت درية شفيق قد اختفت عن الأنظار ولم يعد أحد يأتي على ذكرها علنا، حتى هي اعتقدت أن جمال عبد الناصر قد نسيها تماما، لكن في فبراير 1967، جاءت المخابرات إلى منزل درية بالزمالك وألقت القبض على زوجها المحامي نور الدين رجائي، بتهمة الاشتراك في مؤامرة ضد عبد الناصر والنظام، لكن ما حدث أن “وشاية” ما قد وصلت إلى السلطات في مصر بأن رجائي ينتقد النظام، فألقوا القبض عليه مع تسعة محامين آخرين، وأودعوهم سجن طرة، ولم تعرف أسرته مكانه إلا بعد أربعة أشهر، وتقول عزيزة، ابنة درية ورجائي “السبب الوحيد في الإفراج عن أبي كان حرب الأيام الستة، والتي تعرض بعدها البوليس السري لهجوم عنيف (..) وفيما بعد، نشرت الحكومة اعتذارا رسميا لأولئك المحامين في الصحف”.

كانت سنوات لبنى عبد العزيز بعد طلاقها من رمسيس نجيب مضطربة، فقد مرضت والدتها بالسرطان وتوفيت بالخارج، وأوقفت لبنى عملها السينمائي حدادا عليها، وفي بدايات عام 1966 دخل حياتها الدكتور إسماعيل برادة، كانت لبنى قد تعرفت عليه قبل سنوات عندما كان يعد الموسيقى لبرنامجها في الإذاعة، واقترب منها وتزوجا في مارس 1966، وهو نفس العام الذي قامت فيه ببطولة فيلم “العيب” عن قصة لـ يوسف إدريس، وإخراج جلال الشرقاوي، الذي يوجه نقدا قاسيا لفساد الجهاز الإداري في الدولة، لكنه يتعرض في الرقابة إلى أزمة عطلت عرضه إلى ما بعد هزيمة يونيو، مع حذف 17 دقيقة كاملة من الفيلم، وكانت الرقابة قد رفضت الفيلم في البداية، وتعنتت في منحه تصريح العرض “لأن المكتب الذي كانت تتم فيه مشاهد الرشوة، والفساد معلق على إحدى جدرانه صورة للرئيس جمال عبد الناصر”، لكن لبنى عبد العزيز لم تعرف بهذه المعركة الرقابية إلا بعد عودتها من الولايات المتحدة في نهاية التسعينات، فقد عُرض الفيلم بعد سفرها!

لم تحدد لبنى عبد العزيز في سيرتها توقيت القبض على زوجها إسماعيل برادة، لكن -غالبا- كان في نهايات عام 1966، فقد قُبض على إسماعيل بسبب “وشاية” تتهمه بأنه يقول “كلاما سيئا ضد الرئاسة والنظام الحاكم”، على الرغم من أن برادة لم يكن له أي علاقة بالسياسة، وكان مهتما بعمله وبهوايته في عزف الموسيقى، ومع أن الموقف كله قد استغرق 5 ساعات فقط، لكن التجربة في حد ذاتها قد جعلته يتخذ قراره النهائي بالسفر لاستكمال دراسته بالخارج، وكما نُشر اعتذارا لنور رجائي زوج درية شفيق على اعتقاله لشهور، جاء -في ليلة رحيل لبنى وإسماعيل- رئيس المخابرات في الثالثة فجرا لكي يقدم لهما الاعتذار عن ما حدث، وقد صحبه عبد الحليم حافظ إلى منزلهما حيث قرر أن يكون آخر من يودع لبنى قبل ذهابها إلى المطار.

تقول لبنى إنها لم تكن تفكر في الاستقرار بالولايات المتحدة، فقط لعدة أشهر “لكي تضمن أن زوجها استقر في دراسته وعمله، وبعدها تعود إلى مصر”، فقد كانت مرتبطة بعقود ثلاثة أفلام وبرنامج تليفزيوني وبرنامج إذاعي، كما كانت عضوة في المجلس الأعلى للثقافة، فواجهت هي وإسماعيل صعوبات عدة للحصول على إجازة، حيث قوبل طلب الإجازة الذي قدمته للتليفزيون بالرفض “لدرجة أن رئيس التليفزيون أمين حماد قال لزوجها “ما ينفعش تسافر دي ملك الدولة”، فقال له منفعلا “دي مراتي وملكي أنا” (!) فكان على إسماعيل بعد ذلك أن يحصل على تصريح لها بالسفر من كل المؤسسات التي ترتبط بها لبنى بعلاقات عمل، الإذاعة رفضت في البداية منحه التصريح وقال له المسؤولون “دي ثروة قومية وسفرها خسارة كبيرة”، فكان منهك في الشهور الأخيرة قبل السفر، وقال لـ لبنى: “أنا فاضل أروح أطلع ورقة من السيرك تفيد بأنهم مش محتاجينك هناك”!

لكن لبنى التي سافرت لعدة أشهر مكثت هناك لقرابة ثلاثين عاما، وعندما كانت تأتي إلى مصر في زيارة سريعة وتدلي بحديث قصير إلى صحيفة كانت تقول “نسيت الفن.. أنا الآن زوجة وأم”، لكنها لم تنس أن تقول لمحدثها: “أنا مثلت في السينما دور شحاتة، ودور خادمة ودور فلاحة ودور سايس في أسطبل، وكانوا بيقولوا عليا بنت ذوات وطالعة فيها، آمال أمثل لهم إيه بقى”. مازال يغضبها إنها كانت منبوذة الوسط الفني، مازالت تحب أن تتذكر إنها كانت هنا في مصر تمارس تحديها.. من “هم” الذين كانت تتحداهم، ولما، وما قيمة تحديهم إذا كانت قررت أن تبتعد عنهم وتصبح زوجة وأم، لا أحد يعرف، وربما تكون “هم” هذه هي فاتن حمامة فقط!
مراجع
- السياسة والسينما في مصر 1961-1981، درية شرف الدين، دار الشروق (1992)
- المرأة والجنس، نوال السعداوي، طبعة 1990
- “النسوية وما بعد النسوية”، تأليف سارة جامبل، ترجمة أحمد الشامي، المشروع القومي للترجمة (2002)
- مقال: لا يا شيخ، أحمد بهاء الدين، 19 أغسطس 1961، كتاب: أحجار ونياشين.. حكايات من أرشيف الصحافة والثقافة والفن، إعداد محمد شعير، دار أخبار اليوم 2019.
- رواية أنا حرة، إحسان عبد القدوس، دار أخبار اليوم.
- “الحركة النسائية المصرية.. العلمانية والنوع والدولة في الشرق الأوسط”، تأليف نادية العلي، ترجمة مصطفى رياض، المجلس الأعلى للثقافة 2002
- “نجوم السينما، إدجار موران، ترجمة إبراهيم العريس، المنظمة العربية للترجمة 2012
- حواء إدريس، أنا والشرق، مؤسسة المرأة والذاكرة، 2016
- أطياف الحداثة.. صور مصر الاجتماعية في السينما، عصام زكريا، المجلس الأعلى للثقافة 2009
- “امرأة مختلفة.. درية شفيق”، سينثيا نلسون، ترجمة: نهاد أحمد سالم، المجلس الأعلى للثقافة 1999
- المرأة الجديدة، قاسم أمين، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2012
- لبنى.. قصة امرأة حرة، هبة محمد علي، دار مور للنشر 2021