منذ ثماني سنوات، ادعت زوجة في محضر رسمي بأن زوجها قُتل في أحداث ماسبيرو عام 2011، وقالت في بلاغها إنها تلقت اتصالا يفيد بإصابة زوجها بـ “طلق ناري”، أسفر عن مقتله، وعُثر عليه غارقا فى دمائه بميدان عبدالمنعم رياض، ونُقل إلى المستشفى وفارق الحياة.
بعد ثلاثة أيام، تقدم شقيق (القتيل) ببلاغ رسمي ينفي فيه المعلومات التي أدلت بها الزوجة عن شقيقه، واتهمها صراحة بأنها متورطة في قتل شقيقه “بعدما عثر على آثار دماء بغرفة نوم الضحية”. التقطت المباحث الجنائية الخيط، وعاينت الشقة ووجدت بالفعل آثار للدماء على سرير القتل، وآثار لطلق ناري في الغرفة، في النهاية اعترفت الزوجة بأنها قتلت زوجها بمعاونة “عشيقها”، وادعت إنه قتل في أحداث ماسبيرو حتى تهرب من المسئولية الجنائية، لكن المحكمة حولت أوراقهما إلى المفتي بعد 7 سنوات من جريمة القتل.

التقط السيناريست “هيثم دبور” هذه الجريمة من صفحة الحوادث، وحولها إلى فيلم بعنوان “عيار ناري”، تدور أحداثه بداية من مقتل شاب على يد شقيقه، ثم إدعاء الأسرة أن “القتيل” أُطلق عليه النار من قناصة وزارة الداخلية في اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين في شارع لاظوغلى، ليتحول الفيلم فيما بعد لـ صراع لإثبات (حقيقة) ما حدث بين أسرة القتيل، والصحافة، ومصلحة الطب الشرعي، وغابت عن هذا الصراع وزارة الداخلية المتهمة من أسرة (الشهيد) بقتله!
يبدأ الفيلم بصوت نسائي يفتعل الجدية ويقول “الأرض كروية، الشمس بتطلع من الشرق، الحقيقة بوش واحد بس، الحقيقة هي الحاجة اللي بيتفق عليها الناس.. علشان كده الموضوع مفيهوش وجهتين نظر.. النهاردة محتاج تسأل نفسك أنت لسه مؤمن بنفس الحقيقة”، لم نفهم ما الموضوع، ثم يأخذنا الفيلم إلى مشهد لرجلين في منزل متواضع، احدهما ميت، تدور حولهما سيدة عجوز مشعثة الرأس، تلتقط الطعام من الأرض وتقبله، ثم توجه كلامها للرجل الحي أمامها “هنلم اللي انكسر بعدين يا خالد”.
هذه البداية تجعلنا كمشاهدين على وعي بمكان وقوع الجريمة، التي سيقال فيما بعد إنها جرت في اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين، وكمشاهدين أيضا منتظرين أن يصل أبطال الصراع إلى كشف ملابسات ما رأيناه في المشهد، وهو ما حدث بالفعل، لكن من خلال العديد من الأحداث والمواقف المثيرة للسخرية والرثاء في آن معا!

نحن الآن في (مشرحة زينهم) حيث عاملة تقف بجوار رجل يرتدي زي طبيب، تقرأ له تقرير النيابة في جريمة قتل، وتقول: سعاد الكاشف، 36 سنة، وُجدت مطعونة بشقتها بعدة طعنات، وقد أعترف زوج القتيلة انه فعل ذلك؛ لأنها تخونه، ثم تعلق قائلة بحماس: والله العظيم عنده حق، وكمان في قلب البيت! بغض النظر عن تعليقها، بالنسبة لي وهذا الفيلم من المفترض إنه ليس كوميديا، هذا مشهد كاريكاتوري تماما، ولا أعرف ما الغرض منه، هل هذه وسيلة لكي نعرف قصة السيدة التي بصدد تشريحها، هل هذا أفضل اختيار للتعبير عن هذه المعلومة؟!
ثم إنه ما قيمة هذا التعليق (المشين) للأسف؟ هذا تحقيق أولي للنيابة، وليس قرار نهائي من المحكمة، بأن الزوج قتل الزوجة لإنها كانت تخونه في منزل الزوجية، ثم ما معنى أن نشيد بجريمة قتل أيا كانت دوافعها!
الغرائب مازالت في (مشرحة زينهم) الطبيب الشرعي د. ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي) يشرب من زجاجة خمر أثناء ممارسة عمله، وبعد أن القى نظرة على جثة القتيلة، بحث على الفيس بوك عن حسابها (!) وأرسل إليها طلب صداقة (!!) ثم دخلنا معه في مشهد سريالي تماما، حيث يحاول أن يتخيل الطبيب ما لم تذكره النيابة في تحقيقها، فرأى ما حدث قبل مقتل السيدة، المرأة مع رجل يمارسان الحب فى المطبخ، يدخل الزوج، يلتقط سكين، العشيق يهرب، والزوج يتركه يمضي ببساطة ثم …
من المفترض أن يكتب الطبيب تقريره، ثم يرسله إلى رؤسائه أو إلى جهات التحقيق، لكن ما حدث، أن تحدث الطبيب مع مديرة مصلحة الطب الشرعي، وهو يقول بغضب:”الراجل ما قتلهاش يا دكتورة، الراجل ده مستعد يتعدم وما يعش والناس كاسرة عينه”، هو يريد أن يقول أن المرأة هي من قتلت نفسها، لكن الرجل أدعى على نفسه-زورا- خوفا من كلام الناس، بغض النظر أنه تكييف القضية بهذا الشخص لن يصل بالزوج لعقوبة الإعدام، بل عقوبة مخففة أو مع إيقاف التنفيذ، لكن السؤال هنا (وما كثرة الأسئلة في هذا الفيلم): ما الذي يدفع طبيب شرعي لهذه الثورة، المسألة ليست شخصية، دوره أن يكتب تقرير رسمي، يقول فيه ما رآه في جثة القتيلة، وماذا يعني بالنسبة للجريمة والقاتل، ثم إنه هذا القرار الذي توصل له بأن السيدة (انتحرت خجلا) جاء نتيجة التشريح فقط أم نتيجة التشريح والمشهد السريالي الذي رأيناه؟!

هنا ينقلنا الفيلم لمكان ثالث، مها عوني (روبي) صحفية في جريدة مستقلة، تتجادل مع رئيس التحرير، وتريد أن يسمح لها بأن تكتب مقال رأي، لكنه يرفض ويقول لها بنبرة رجل ذو خبرة “علشان تكتبي رأي لازم يكون عندك الصورة الكاملة، لازم تكوني أتعجنتي جوه الأحداث علشان تكّوني وجهة نظر..” ثم يصلا إلى حل وسط، يقول لها رئيس التحرير:“اعملي شغل حلو في اشتباكات لاظوغلي وأنا هخليكي تكتبي مقال”، وهذا من المفترض أن يكون دافع صحفية التحقيقات في متابعة القصة، حيث مساحة مقال رأي محجوزة باسمها منتظرة في نهاية الطريق.. ماشي!
أنا لا أنوي أنا أتحدث عن الفيلم مشهد مشهد، لكن أردت ببساطة أن أقول من هذا السرد، بأن هناك خلل في رسم الشخصيات، وفي دوافعها منذ البداية، يجعلنا لا نعتقد أن البناء على هذا سيكون له نتيجة جيدة في النهاية.
نحن هنا أمام فيلم استلهم قصته من واقعة حقيقية، ثم إنه يدور في زمن أحداث ثورة يناير، ويجعل الصراع دائرا بين مؤسسات موجودة بالفعل، على حدث قد وقع مثله المئات، إذن لا مجال لخزعبلات من قبيل أن طبيب شرعي يبحث عن الحالات التي يقوم بتشريحها، على الفيس بوك، ويرسل لها طلب صداقة، ثم يحاول أن يتخيل ما حدث، ويغضب بشدة وكأن المسألة شخصية، ولا نعرف هذا الغضب موجه لمن ولماذا أصلا!
على الرغم من غنى الفيلم بالعديد من الشخصيات النسائية الجديرة (حقا) أن نقف عندها، لكني أخترت أن أحاول فهم شخصية الصحفية مها عوني، وسوف نتغاضى عن اختيار روبي لأداء هذا الدور، فهو قرار غير موفق على الإطلاق!
الفيلم هنا وصل إلى مرحلة أن هناك عدد من الشباب قد قتلوا في اشتباكات وقعت في شارع وزارة الداخلية مع قوات الأمن، لكن هناك جثة لشاب واحد فقط اسمه (علاء أبو زيد) تقرير الطبيب الشرعي يقول: القتيل تعرض لإطلاق ناري من مسافة قريبة ومواجهة له ومن نفس مستوى وقوف القتيل، وإن الرصاصة جاءت له من الأمام وليست من الخلف”، مما يعني أن هذا الشاب لم يُقتل على يد “القناصة”، مما ينفي تماما رواية شقيق القتيل ووالدته، اللذين تجمع حولهما عدد من المتظاهرين الغاضبين وبعضا من أهل المنطقة!

قررت الصحفية مها أن تدفع أموالا لرجل يقف حارسا على باب مصلحة الطب الشرعي، لكي يعطيها نسخا من تقارير الطب الشرعي عن الحالات المتوفاة في الاشتباكات، هنا هي ترتكب خطأ مهني فادح، أن تدفع أموالا لشخص لكي يسرق لها مستندات رسمية، ومشكلة هذا التصرف إن أي صحفي لا يمكنه أن يدافع عن صحة هذه المستندات (حتى لو كانت صحيحة) لطالما حصل عليها بهذا الشكل.. نحن لم ننسى، هي تتابع القصة بهذا الاهتمام؛ لأن رئيسها وعدها بأن يسمح لها بكتابة مقال رأي (الموضوع واضح إنه يستاهل)
بالنسبة لصحيفة مستقلة، في هذا التوقيت، المستندات التي حصلت عليها مها كانت كافية لوضع تحقيقها في الصفحة الأولى، لكن الغريب أن دفاعها عن صحة المعلومات التي توصلت إليها، جاء بناء على قناعتها الشخصية، وليس من داخل عملها على القصة، فعندما دار حوار بسيط بينها وبين صحفي زميل لها من قسم الحوادث، ناقشها فيما كتبت، فكانت ردودها (غاية في الغباء والسذاجة)، ولا تنم على أي عمل جاد:
الداخلية زرعت وسطهم ناس يصفوهم على الأرض
لاظوغلي أرض المخبرين المقدسة
يبقى الاحتمال الاقرب للصح أن الطب الشرعي متواطئ مع الداخلية وفيه فساد!
وعندما قال لها زميلها: الداخلية لو عايزة تغسل أيدها من دم العيال دي، كانوا طلعوا كل التقارير بنفس الطريقة مش تقرير واحد بس (كلام منطقي)، لكن هنا انتهت تفسيراتها ولم تجد سوى الصمت! رد فعل هايل!

تغيير مديرة مصلحة الطب الشرعي للتقرير الأصلي، إرضاء للمتظاهرين الذين أحاطوا بالمصلحة غاضبين ومعترضين، بأن: علاء أبو زيد) أصيب بطلق ناري من مسافة بعيدة، من المرجح أن تكون من زاوية علوية على أحد الأسطح، أوقع (مها) في ورطة مع رئيس التحرير، فغضب، وأراد أن تجد تفسيرا للمعلومات (المغلوطة) التي كتبتها، ونشرتها الصحيفة في صفحتها الأولى، هي لم تقل له كيف أتت بالمستندات، ولم تقل له بالطبع تفسيراتها الخزعبلاية التي قالتها من قبل لزميلها، لكنها ذهبت لكي تبحث في القضية، فلمن تلجأ يا ترى؟ لـ عم فتحي حارس بوابة مصلحة الطب الشرعي، دفعت له أكثر، وهو هذه المرة أراد أن يجاملها، فأدخلها سرا إلى مبنى المصلحة، لتقابل (دلال) مساعدة د. ياسين، وبالطبع المعلومات التي أدلت بها (دلال) كانت مهمة للغاية، فأكتفت بها (مها) وكتبتها في تقريرها!
كان من هذه المعلومات (الهامة) بأن د. ياسين يستخدم ثلاجة المشرحة لحفظ وتجميد الخمور التي يشربها أثناء ممارسة عمله، الحقيقة أن مها حاولت فعلا ان تتحدث مع د. ياسين لكنه أغلق باب شقته في وجهها!

ما الأزمة هنا؟
مها نشرت المعلومات التي أدلت بها (عاملة) في مصلحة الطب الشرعي، وهذه المعلومات تطعن في الطبيب الذي كتب التقرير، الذي كانت هي تدافع عنه ومقتنعة بصحته، يعني أن تقريرها الجديد يثبت عكس ما نشرته في تقريرها القديم، بالإضافة إلى إنها لم تحاول أن تعرف كيف تغير التقرير من مصادر لها حيثية بداخل مصلحة الطب الشرعي، أيضا لم تشك ولو لحظة واحدة أن مديرة المصلحة تستخدمها كمخلب قط للتخلص من الطبيب، ولتدعيم موقفها وتقريرها المزور، وهو ما حدث بالفعل! فيما بعد قالت لـ ياسين: شغلي أني أوري الناس حقيقة اللي حصل! (وهل كانت تفعل ذلك؟!)

من يتتبع مسار (مها) في التعامل مع القضية التي من المفترض أنها صلب عملها، بغض النظر عن حلمها بأن يُسمح لها بأن تكتب مقال رأي في الصحيفة، يجد تعثرا ومساحات من الجهل لا يمكن التعامل معها بخفة، خاصة إنها شخصية رئيسية ومؤثرة في أحداث الفيلم، والقرارات التي تتخذها تؤثر في مسار الشخصيات الأخرى، على سبيل المثال: عندما أُوقف د. ياسين عن العمل، وبدأ في البحث عن كيفية إثبات صحة تقريره، لجأ الى نفس الشخص الذي تسبب في مشكلته (مها)، وفي حوار هادىء بينهما، قالت له: التقرير الأولاني اللي أنا نشرته مفيش اتنين في البلد صدقوه (..) انا اسفة مش هقدر أساعد حد!

معنى هذا إنها رفضت أن تتحدث إلى مصدر رئيسي في القصة التي مازالت تعمل عليها، بحجة إن التقرير الذي كتبه لم يصدقه أحد، على الرغم من أن هناك تطورات جديدة يمكن الكشف عنها من خلال التحدث إليه، وإلى غيره حول كيف تبدل التقرير، وكانت النتيجة أن سعى الطبيب في اتجاهات آخرى (بعضها خزعبلي أيضا) لمحاولة إثبات أن (علاء أبو زيد) قُتل خارج منطقة الاشتباكات، وأن أهله هم من لديهم المعلومات عن حقيقة ما حدث!

فيلم “عيار ناري” تصدى لقضية كبيرة بشخصيات مشوشة ولديها خلل واضح في تركيبتها-لا أقصد عيوب الشخصية، وكل شخصية تحتوي مزيج غريب من محاولة التصرف بعقلانية واللجوء إلى الخرافات والتكهنات والتفسيرات الخرافية، للتصدي لجريمة قتل تتعارض فيها شهادتين: أن القتيل شهيد، وأن القتيل شخص عادي قُتل في شجار لا يتعلق من قريب أو بعيد من أحداث ثورة يناير، التي حاول الفيلم أن يدينها، ويُدين المشاركين فيها، ويشكك في دوافعهم والأسباب التي ماتوا من أجلها. مع ملاحظة أن الحادثة الأصلية التي استلهم منها صناع الفيلم القصة بها دراما أكبر وأعمق من الدراما التي رأيناها في الفيلم، فلو اقتصر دورهم على نقلها كما هي إلى الشاشة مع شيء من الخيال في تصور ماضي الشخصيات وعلاقتهم ببعض، لكنا أمام فيلم أكثر قيمة من هذا الفيلم!